والخلق المستأنف وهل يعصي ملك أم لا قال أبو محمد: قد نص الله عز وجل على أن الملائكة متعبون قال تعالى: " ويفعلون ما يؤمرون " ونص تعالى على أنه أمرهم بالسجود لآدم وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " إلى قوله: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " وقال تعالى: " وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ويفعلون ما يؤمرون ".

قال أبو محمد: فنص الله تعالى على أنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرومون موعودون بإيصال الكرامة أبداً مصرفون في كتاب الأعمال وقبض الأرواح وأداء الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتوكل بما في العالم الأعلى والأدنى وغير ذلك كما خالقهم عز وجل به عليم وقوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فأخبر عز وجل أن جبريل عليه السلام مطاع في السموات أمين هنالك فصح أن هنالك أوامر وتدبير وأمانات وطاعة ومراتب ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون بقوله عز وجل: " عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وبقوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " وبقوله: " فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ " فنص تعالى على أنهم كلهم لا يسأمون من العبادة ولا يفترون من التسبيح والطاعة لا ساعة ولا وقتاً ولا يستحسرون من ذلك وهذا خبر عن التأييد لا يستحيل أبداً ووجب أنهم متنعمون بذلك مكرمون به مفضلون بتلك الحال وبالتذاذهم بذلك ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون قد حقت لهم ولاية ربهم عز وجل أبد الأبد بلا نهاية فقال تعالى " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " فكفر تعالى من عادى أحد منهم فإن قال قائل كيف لا يعصون والله تعالى يقول: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم " قلنا نعم هم متوعدون هم متوعدون على المعاصي كما توعد رسول الله ﷺ إذ يقول له ربه عز وجل: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقد علم عز وجل أنه عليه السلام لا يشرك أبداً وإن الملائكة لا يقول أحد منهم أبداً إني إله من دون الله وكذلك قوله تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " وهو تعالى قد برأهن وعلم أنه لا يأتي أحد منهن بفاحشة أبداً بقوله تعالى: " الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " لكن الله تعالى يقول مل شاء ويشرع ما شاء ويفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فأخبر عز وجل بحكم هذه الأمور لو كانت وقد علم أنها لا تكون كما قال تعالى: " لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " وكما قال: " لو أراد الله أن يتخذ ولداً لأصطفى مما يخلق ما يشاء " وكما قال تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " وكما قال تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً " وكل هذا قد علم الله تعالى أنه لا يكون أبداً وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أن الملائكة مأمورون ولا منهيون قلنا هذا باطل لأن كل مأمور بشيء فهو منهي عن تركه وقوله تعالى: " يخافون ربهم من فوقهم " يدل على أنهم منهيون عن أشياء يخافون من فعلها وقال عز وجل: " وما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين ". قال أبو محمد: وهذا مبطل ظن من ظن أن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بشرب الخمر والزنا والقتل وقد أعاذ الله عز وجل الملائكة من مثل هذه الصفة بما ذكرنا آنفاً أنهم لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون وبإخباره تعالى أنهم لا يسأمون ولا يفترون ولا يستحسرون عن طاعته عز وجل فوجب يقيناً أنه ليس في الملائكة البتة عاص لا بعمد ولا بخطأ ولا بنسيان وقال عز وجل: " جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " فكل الملائكة رسل الله عز وجل بنص القرآن والرسل معصومون فصح أن هاروت وماروت المذكورين في القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أنم يكونا جنين من أحياء الجن كما روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره وموضعهما حينئذ في الجو بدل من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون الوقوف على قوله ما أنزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا وأما أن يكونا ملكين أنزل الله عز وجل عليهما شريعة حق ثم مسخها فصارت كفراً كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمها وهي بعد كفر كأنه قال تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " ثم ذكر عز وجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى: " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ".

قال أبو محمد: فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قولاً صحيح ونهي عن المنكر وأما الفتنة فقد تكون ضلالاً وتكون هدى قال الله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام أنه قال لربه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " فصدق الله عز وجل قوله وصح أن يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء وقال تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " وليس كل أحد يضل بماله وولده فقد كان للنبي ﷺ أولاد ومال وكذلك لكثير من الرسل عليهم السلام وقال تعالى " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتو الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً " وقال تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتنهم فيه " فهذا سقياً الماء التي هي جزاء عن الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة فصح أن من الفتنة خيراً وهدى ومنها ضلالاً وكفراً والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرها في أن لا يكفر ويضل عصاهما في ذلك وقوله تعالى: " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " حق لأن اتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفتهم يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن وتؤمن فيفرق إيمانها بينها وبين زوج الذي لم يؤمن في الدنيا والآخرة وفي الولاية ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عز وجل: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " وهذا حق لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عز وجل وأبطله ضارون من لإذن الله تعالى باستضراره به وهكذا إلى آخر الآية وما قال عز وجل قط أن هاروت وماروت علما سحراً ولا كفراً ولا أنهما عصيا وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة لا تصح من طريق الإسناد أصلاً ولا هي أيضاً مع ذلك عن رسول الله ﷺ وإنما هي موقوفة على من دونه عليه السلام فسقط التعلق بها وصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين وهذا التفسير الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ولا تقديم ولا تأخير ولا زيادة في الآية ولا نقص منها بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقيناً وبالله تعالى التوفيق فإن قيل كيف تصح هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون أن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي وكذلك الشيطان ولا فرق فكيف تعلم الملائكة الناس أو كيف تعلم الجن الناس قلنا وبالله تعالى التوفيق أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن الكفر كما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكفر في نص القرآن وأما الشياطين فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين البطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم قال تعالى: " وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " وأما الحور العين فنسوا أن مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عز وجل عاقلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة والجنة إذا دخلها أهلها المخلدون فليست دار معصية وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلاً بل هم في نعيم وحمد لله تعالى وذكر له والتذاذ بأكل وشراب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين وأما الولدان المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي ﷺ وقد صح عن رسول الله ﷺ أن الله تعالى يخلق خلقاً يملأ بهم الجنة فنحن نقر بهذا ولا ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وأما الجن فإن رسول الله ﷺ بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال أبو حنيفة لا ثواب لهم وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس إنهم في الجنة وبهذا نقول لقول الله عز وجل: " أعدت للمتقين " لقوله تعالى حاكياً عنهم ومصدقاً لمن قال ذلك منهم " و وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا " وقوله تعالى حاكياً عنه: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به " وقوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ " إلى السورة وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلاً على الله ما لا يعلم وهذا حرام ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك لنا هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله عز وجل لنا فكيف وقد نص عز وجل على أنهم آمنوا فوجب أهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد.

قال أبو محمد: وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله ﷺ فضلت على الأنبياء بست فذكرنا فيها أن عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما يبعث إلى قومه خاصة وقد نص عليه السلام على أنه بعث إلى الجن وقال عز وجل: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ " إلى قوله تعالى: " وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا " وإذ الأمر كما ذكرنا في يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد ﷺ لأنه ليس الجن من قوم أنسي وباليقين ندري أنهم قد أنذروا فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى: " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " وبالله تعالى التوفيق.