الفصل لابن حزم في الملل والأهواء والنحل/الجزء الخامس
الجزء الخامس
الفصل بكسر ففتح جمع فصلى بفتح فسكون كقصعة وقصع النخلة المنقولة من محلها إلى محل آخر لتثمر
بسم الله الرحمن الرحيم
المعاني التي يسميها أهل الكلام اللطائف والكلام في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع يجوز واحدها لغير الأنبياء أم لا
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز وجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام ورأيت لمحمد ابن الطيب الباقلاني أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حماراً على الحقيقة وإن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلاً إلا بالتحدي فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك فقط وان كل ما لم يتحد به النبي ﷺ الناس فليست آية له وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عز وجل لأنبيائه فقط سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا وكل ذلك آيات لهم عليهم الصلاة والسلام تحدوا بذلك أم لا والتحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا لساحر ولا لأحد غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة لكنه تعالى لا يفعل كما لا يفعل ما لا يريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره برهان ذلك قوله عز وجل "
وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وقال عز وجل " وعلم آدم
الأسماء كلها " وقال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون
" فصح أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله عز وجل الترتيب الذي لا يتبدل
وصح أن الله عز وجل أوقع كل اسم على مسماه فلا يجوز أن يوقع اسم من تلك
الأسماء على غير مسماه الذي أوقعه الله تعالى عليه لأنه كان يكون تبديلاً
لكلمات الله تعالى التي أبطل الله عز وجل أن تبدل ومنع من أن يكون لها مبدل
ولو جاز أن تحال صفات مسمى منها التي بوجودها فيه استحق وقوع ذلك الاسم
عليه لوجب أن يسقط عنه ذلك الاسم الذي أوقعه الله تعالى عليه فإذ ذلك كذلك
فقد وجب أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله على ما هو عليه من فصوله
الذاتية وأنواعه وأجناسه فلا يتبدل شيء منه قطعا إلا حيث قام البرهان على
تبدله وليس ذلك إلا على أحد وجهين إما استحالة معهودة جارية على رتبة واحدة
وعلى ما بنى الله تعالى عليه العالم من استحالة المني حيوانا والنوي
والبزور شجرة ونباتا وسائر الاستحالات المعهودات وإما استحالة لم تعهد قط
ولا نبي الله تعالى العالم عليها ولذلك قد صح للانبياء عليهم السلام شواهد
لهم على صحة نبوتهم وجود ذلك بالمشاهدة ممن شهدهم ونقله إلى من لي يشاهدهم
بالتواتر الموجب للعلم الضروري فوجب الإقرار بذلك وبقي ماعدا أمر الأنبياء
عليهم السلام على الامتناع فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح
بوجه من الوجوه لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك ولا صح به نقل وهو ممتنع في
العقل كما قدمنا ولو كان ذلك ممكنا لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت
الحقائق كلها وامكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا لحق بالسوفسطائية على الحقيقة
ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين أ لا يجوز إلا
لهذين فقط فان قال إن ذلك للساحر والفاضل فقط وهذا هو قولهم سألناهم عن
الفرق بين هذين وبين سائر الناس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين
غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا أن ذلك جائزاً أيضاً
لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقا ولم يثبتوا حقيقة وجاز تصديق
من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وانه يكلم الطير و يجتني من شجر
الخروب التمر والعناب وان رجالا حملوا وولدوا وسائر التخليط الذي من صار
إليه وجب أن يعامل بما هو أهله إن أمكن أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حيائه
قال أبو محمد: لا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة
رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال:
فردت علينا الشمس والليل راغم بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوءها سبغ
الدجنة وانطوى أبهجتها فوق السماء المرجع فوالله ما أدرى علي بدا لنا فردت
له أم كان في القوم يوشع وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم فانهم يدعون
لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه هؤلاء وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم
ورؤوس المثايب عندهم ان رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وانه
اثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بنى الاسكندراني كان يسكن بقرطبة عند باب
اليهود وهذا كله باطل موضوع وبنو الاسكندراني كانوا أقواماً أشرافاً
معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان كاف
لمن نصح نفسه.
قال أبو محمد وأما السحر فانه ضروب منه ما هو من قبل الكواكب كالطابع
المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة
العقرب ومن هذا الباب كانت الطلسمات وليست إحالة طبيعة ولا قلب عين ولكنها
قوي ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى اخر كدفع الحر للبرد ودفع البرد للحر
وكقبل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة
للقمر ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا أثارها ظاهرة إلى
الآن من قرى لا تدخلها جرادة ولا يقع فيه برد وكسر قطة التي لا يدخلها جيش
إلا أن يدخل كرها وغير ذلك كثير جدا لا ينكره إلا معاند وهي أعمال قد ذهب
من كان يحسنها جملة وانقطع من العالم ولم يبق إلا آثار صناعاتهم فقط ومن
هذا الباب كان ما تذكره الأوائل في كتبهم في المويسيقا وانه كان يؤلف به
بين الطبائع وينافر به أيضاً بينها ونوع آخر من السحر يكون بالرقي وهو كلام
مجموع من حروف مقطعه في طوالع معروفة أيضاً يحدث لذلك التركيب قوة تستثار
بها الطبائع وتدافع قوى أخر وقد شاهدنا وجربنا من كان يرقي الدمل الحاد
القوي الظهور في أول ظهوره فييبس يبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في
اليوم الثالث ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا من ذلك مالا
نحصيه وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد ولا ترقي
الثاني فييبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق ويلقي حامله منه أذى الشديد
وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما
لم ينفتح ويبرأ كل ذلك البرء التام كان لا يزال يفعل ذلك في الناس والدواب
ومثل هذا كثير جدا وقد اخبرنا من خبره عندنا كمشاهدتنا لثقته وتجريبنا
لصدقة وفضله انه شاهد ما لا يحصى نساء يتكلمن على الذي يمخضون الزبد من
اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين
ملاقاة فضلة الصفراء بالسقمونيا وملاقاة ضعف القلب بالكندر وكل هذه المعاني
جارية على رتبة واحدة من طلب علم ذلك أدركه ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر
الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي
شاهدها الناس وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلاً.
قال أبو محمد: وكل هذه الوجوه التي ذكرناها ليست من باب معجزات الأنبياء
عليهم السلام ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة والصالحين لأن معجز
الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا
يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات
ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية وإحياء ميت
قد أرم وإخراج ناقة من صخرة ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكورا ومن أن
يأتوا بمثله وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية التي بوجودها تستحق
الأسماء.
ومنها تقوم الحدود وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر والفاضل قال
أبو محمد: وإنما يلوح الفرق جداً بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود
الأسماء والمسميات وبطبائع العالم وانقسامه من مبدئه من أجناس أجناسه إلى
أنواعه إلى أشخاصه وما هو من أعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما يسرع
الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطئ زواله منها وما يثبت منها ثبات
الذاتي وان لم يكن ذاتياً والفرق بين البرهان وبين ما نظن أنه برهان وليس
برهاناً والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو حدثنا محمد بن
بيان ثنا أحمد بن عبد البصير قال ثنا قاسم بن اصبغ ثنا محمد بن عبد السلام
الخشني ثنا محمد بن المثني ثنا عبد الرحمن ابن مهدي ثنا سفيان الثوري عن
أبي إسحاق الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكر الغيلان عند عمر بن الخطاب
فقالوا انهم يتحولون فقال عمر انه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له ولكن
لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا فهذا عمر رضي الله عنه
يبطل إحالة الطبائع وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين كثيرا وقد نص
الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من
سحرهم أنها تسعى " فاخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا
حقيقة له وقال تعالى " إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى "
فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له فإن قيل قد قال الله عز وجل " سحروا أعين
الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " قلنا نعم إنها حيل عظيمة وإثم عظيم إذ
قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله ﷺ وانهم كادوا عيون الناس إذ أوهموهم
أن تلك الحبال والعصي تسعي فاتفقت الآيات كلها والحمد لله رب العالمين وكان
الذي قدر ممن لا يدري حيلهم من أنها تسعى ظنا أصله اليقين وذلك انهم رأوا
صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إلى الظن وقدروا أنها ذات حيات ولوا معنوا
الظن وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك
الحركات كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينة في جسم إنسان فيظن من رآه ممن
لا يدري حيلته أن السكين غاصب في جسد المضروب وليس كذلك بل كان نصاب السكين
مثقوبا فقط فغاصت السكين في النصاب وكإدخاله خيطا في حلقة خاتم يمسك إنسان
غير متهم طرفي الخيط بيديه ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه
وفي ذلك المقام أدخله تحت يده وكان في فيه خاتم أخرى يري من حضر حلقة
الخاتم الذي في فيه يوهمهم انه قد أخرجه من الخيط ثم يرد فمه إلى الخيط
ويرفع يديه وفمه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط وكذلك سائر حيلهم وقد
وقفنا على جميعها فهذا هو معنى قوله تعالى سحروا أعين الناس واسترهبوهم أي
انهم أوهموا الناس فيما رأوا ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ولو فتشوها للاح
لهم الحق وكذلك قوله تعالى " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه "
فهذا أمر ممكن يفعله النمام وكذلك ما روي أن النبي ﷺ سحره لبيد بن الأعصم
فولد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن انه فعل الشيء وهو لم يفعله فليس في هذا
أيضا إحالة طبيعية ولا قلب عين وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة كما قلنا
في الطلسمات والرقي فلا فرق ونحن نجد الإنسان يسب أو يقابل بحركة يغضب منها
فيستحيل من الحلم إلى الطيش وعن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال
المجانين وربما أمرضه ذلك وقد قال عليه السلام إن من البيان لسحرا لأن من
البيان ما يؤثر في النفس فيثيرها أو يسكنها عن ثورانها ويحيلها عن عزماتها
وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون لاستمالتها للنفوس فقط:
قال أبو محمد: ويقال لمن قال أن السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع أخبرونا
إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي ﷺ والساحر ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة
كما قال فرعون عن موسى عليه السلام " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " قَالَ
فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ
مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ .
وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى عليه السلام عصيهم وحبالهم حيات وقلب موسى عليه
السلام عصاه حية وكان كلا الآمرين حقيقة فقد صدق فرعون بلا شك في انه ساحر
مثلهم إلا انه أعلم منهم به فقط وحاشا لله من هذا بل كان فعل السحرة إلا
من حيل أبي العجائب فقط فان لجئوا إلى ما ذكره الباقلاني من التحدي قيل لهم
هذا باطل من وجوه أحدها إن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة
سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من
إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة
الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة قال الله عز وجل " قل
هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين " فوجب ضرورة أن من لا برهان له على صحة قوله
فهو كاذب فيها غير صادق وثانيها أنه لو كان ما قالوا لسقطت اكثر آيات رسول
الله ﷺ كنبعان الماء من بين أصابعه وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير
وعناق ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار وكتفله في العين فجاشت بماء غزير
إلى اليوم وحنين الجذع وتكليم الذراع وشكوى البعير والذئب والأخبار بالغيوب
وتمر جابر وسائر معجزاته العظام لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتحد بذلك
كله أحداً ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه رضى الله عنهم ولم يبق
له آية حاشا القرآن ودعاء اليهود إلى تمنى الموت وشق القمر فقط وكفى نحسا
بقول أدى إلى مثل هذا فان ادعوا انه عليه السلام تحدى بها من حصر وغاب وان
تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله ﷺ بقوله إذ
فعل ذلك أشهد أني رسول الله والثالث وهو البرهان الدافع هو قول الله تعالى "
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند
الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " وقوله " وما منعنا أن نرسل
بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " فسمى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة
من الأنبياء عليهم السلام آيات ولم يشترط عز وجل في ذلك تحديا من غيره فصح
أن اشتراط التحدي باطل محض وسح أنها إذا ظهرت فهي آية كان هنالك تحد أو لم
يكن وقد صح إجماع الأمة المتيقن على أن الآيات لا يأتي بها ساحر ولا غير
نبي فصح أن المعجزات إذا هي آيات لا تكون لساحر ولا لأحد ليس نبيا والرابع
أنه لو صح حكم التحدي لكان حجة عليه لأن التحدي عندهم يوجب أن لا يقدر على
مثل ذلك أحد إذ لو أمكن أن يوجد مثل ذلك من أحد لكان قد بطل تحديه وقيل له
قد وجد من يعمل مثل عملك هذا إما صالح وإما ساحر والخامس أنه لو كان ما
قالوا وجاز ظهور معجزة من ساحر لا يتحدى بها أو فاضل لا يتحدى بها لامكن أن
يتحدى لهما بها بعد موتهما من ضل فيهما كما فعات الغلاة بعلي رضي الله عنه
فعلى كل حال قولهم ساقط والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما من ادعى أنه يشبه الساحر على العيون فيريهم ما لا يرى
فان هذه الطائفة لم تكتف بالكفر بإبطال النبوات إذ لعل ما أتى به النبي ﷺ
كان تشبيهاً على العيون لا حقيقة له حتى رامت إبطال الحقائق كلها أولها عن
آخرها ولحقت بالسوفسطائية لحاقاً صحيحاً بلا تكلف ويقال لهم إذا جاز أن
يشبه على العيون حتى يرى المشبه عليها ما لا حقيقة له وما لا تراه فما
يدريكم لعلكم كلكم الآن مشبه على عيونكم ولعل بعض السحرة قد شبه عليكم
فأراكم أنكم تتوضئون وتصلون وأنتم لا تعقلون شيئاً من ذلك ولعلكم تظنون
أنكم تزوجتم وإنما في بيوتكم ضأن ولا معز ولعلكم الآن على ظهر البحر ولعل
كل ما تعتقدون من الدين تشبيه عليكم وهذا كله لا مخلص لهم منه وقد عاب الله
عز وجل من ذهب إلى هذا فقال " ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه
يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون " فلو جاز أن يكون
للسحر حقيقة ويشبه ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وأمكن أن يشبه على
البصر ما ذمهم الله عز وجل بأن قالوا شيئاً يمكن كونه لكنهم لما قالوا ما
لا يمكن البتة وتعلقوا بذلك في دفع الحقائق عابهم الله تعالى بذلك وأنكره
عليهم.
قال أبو محمد: وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء
لأن أحدنا قد يرى شخصاً على بعد لا يشك فيه إلا أنه سارع فقطع أنه إنسان
أو أنه فلان فقطع بظنه ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقياً على ما
أدرك من الحقيقة وهكذا في كل ما حكم فيه المرء بظنه وأما ذو الآفة كمن فيه
ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها فهو أيضاً كما ذكرنا وإنما
الماء المطل على حدقته يوهمه أنه رأى شيئاً وقطع بذلك فإذا تثبت في كل ذلك
لاح له الحق من الظن وكذلك من فسد مكان التخيل من دماغه فإن نفسه تظن ما
يتوهمه فتقطع به ولو قوي تميزها لفرقت بين الحق والباطل وهكذا القول في
إدراك السمع والذوق وهذا كله يجري على رتب مختلفة بمن أعمل ظنه وعلى رتب
غير مختلفة في جمل هذه الأوقات بل هي ثابتة عند أهل التحقيق والمعرفة
معروفة العلاج حتى يعود منها إلى صلاحه ما لم يستحكم فساده ولا يظن ظان أنه
ممكن أن نكون في مثل حال هؤلاء إذ لو كان هذا لم نعرف شيئاً من العلوم على
رتبه وأحكامه الجارية على سنن واحد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم بأي
شيء يعرفون أنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نحن بماذا نعرف أن حواسنا
سليمة وأن عقولنا سليمة ما دامت سالمة وبماذا نعرف الحواس المدخولة والعقول
المدخولة وغير المدخولة وهو إجراء ما أدرك بالحواس السليمة والعقول
السليمة على رتب محدودة معلومة لا تبدل عن حدودها أبداً وأجرأ ما أدرك
بالحواس الفاسدة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فإنهم لا يقدرون على
فرق أصلاً وبالله تعالى التوفيق: قال أبو محمد: وكذلك ما ذكر عمن ليس نبياً
من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية
كذلك لذلك النبي وذلك الذي ظهرت عليه آية بمنزلة الجذع الذي ظهر فيه
الحنين والذراع الذي ظهر فيه النطق والعصا التي ظهرت فيها الحياة وسواء كان
الذي ظهرت فيه الآية صالحاً أو فاسقاً وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط
عمر بن حممه الدوسي وبرهان ذلك أنه لم يظهر فيه بعد موت النبي ﷺ.
قال أبو محمد: فإن قيل إذا أجزتم أن تظهر المعجزة في غير نبي لكن في عصر
نبي لتكون آية لذلك النبي فهلا أجزتموه كذلك بعد موت النبي ﷺ لتكون آية له
أيضاً ولا فرق بين الأمرين قلنا إنما أجزنا ذلك الشيء في الجماد وسائر
الحيوان وفيمن شاء الله تعالى إظهار ذلك فيه من الناس ولا نخص بذلك فاضلاً
لفضله ولا نمنع ذلك في فاسق لفسقه أو كافر وإنما ننكر على من خص بذلك
الفاضل فجعلها كرامة له فلو جاز ذلك بعد موت النبي ﷺ لا شكل الأمر ولم نكن
في أمن من دعوى من ادعى أنها آية لذلك الفاضل ولذلك الفاسق والإنسان من
الناس يدعيها آية له ولو كان ذلك لكان إشكالاً في الدين وتلبيساً من الله
تعالى على جميع عباده أولهم عن آخرهم وهذا خلاف وعد الله تعالى لنا وإخباره
بأنه قد بين علينا الرشد من الغي وليس كذلك ما كان في عصر النبي ﷺ لأنه لا
يكون إلا من قبل النبي ﷺ وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أنها له لا للذي قال
أبو محمد: وأما الذي روي في ذلك عن الثلاثة أصحاب الغار وانفراج الصخرة
ثلثاً ثلثاً عندما ذكروا من أعمالهم فلا تعلق لهم به لأن تكسير الصخرة ممكن
في كل وقت ولكل أحد بلا إعجاز وما كان هكذا فجائز وقوعه بالدعاء وبغير
الدعاء لكن وقع وفاقاً لتمنيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج همه أو بلوغ
أمنيته في دنياه ولقد حدثني حكم بن منذر بن سعيد أن أباه رحمه الله كان في
جماعة في سفرة في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا في ظل جبل ينتظرون
الموت قال فأسندت رأسي إلى حجر ناتئ فتأذيت به فقلعته فاندفع الماء العذب
من تحته فشربنا وتزودنا ومثل هذا كثير مما يفرج وحتى لو كانت معجزة لوجب
بلا شك أن يكونوا أنبياء أو لنبي ممن في زمن نبي لابد مما قدمناه.
قال أبو محمد: ولا عجب أعجب من قول من يجيز قلب الأعيان للساحر وهو عندهم
فاسق أو كافر ويجيز مثل ذلك للصالح وللنبي فقد جاز عندهم قلب الأعيان للنبي
وللصالح وللفاسق وللكافر فوجب أن قلب الأعيان جائز من كل أحد وبؤساً لقول
أدى إلى مثل هذا وهم يجيزون للمغيرة بن سعيد وبيان ومنصور الكشف وقلب
الأعيان على سبيل السحر وقد جاء بعدهم من يدعي لهم النبوة بها فاستوى عند
هؤلاء المخذولين النبي والساحر نعوذ بالله من الضلال المبين.
قال أبو محمد: فان اعترضوا بقول الله تعالى " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ " وبقوله تعالى " أجيب دعوة الداع إذا
دعان " فهذا حق وإنما هو بلا شك أنه في الممكنات التي علم الله تعالى أنها
تكون لا فيما في علم الله تعالى أنها لا تكون ولا في المحال ونسألهم عمن
دعا إلى الله تعالى في أن يجعله نبياً أو في أن ينسخ دين الإسلام أو بأن
يجعل القيامة قبل وقتها أو يمسخ الناس كلهم قردة أو بأن يجعل له عيناً
ثالثة أو بأن يدخل الكفار الجنة أو المؤمنين النار وما أشبه هذا فإن أجازوا
كل هذا كفروا ولحقوا مع كفرهم بالمجانين وإن منعوا من كل هذا تركوا
استدلالهم بالآيات المذكورة وصح أن الإجابة إنما تكون في خاص من الدعاء لا
في العموم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وصح أن رسول الله ﷺ قال لأسامة وخالد هلا شققت عن قلبه لتعلم أ قال ها متعوذا أم لا.
قال أبو محمد: فلو جاز ظهور المعجزة على غير نبي على سبيل الكرامة لوجب
القطع على ما في قلبه وأنه ولي الله تعالى وهذا لا يعلم من أحد بعد الصحابة
رضى الله عنهم الذين ورد فيهم النص وأما قول الباقلاني أن الله تعالى لا
يقدر على إظهار آية على يد كذاب فهو داخل في جملة تعجيزه الباري تعالى وهو
أيضاً تعجيز سخيف داخل في جملة المحال وذلك أنه جعل الله تعالى قادراً على
إظهار الآيات على كل ساحر فإن علم أنه يقول أنه نبي لم يقدر على أن يظهرها
عليه وهذا قول في غاية الفساد لأن من قدر على شيء لم يجز أن يبطل قوته عليه
علمه بأن ذلك الذي يظهر فيه الفعل يقول أنا نبي ولا يتوهم هذا ولا يتشكل
في العقل ولا يمكن البتة وإنما هم قوم أهملوا حكم الله تعالى عليهم وأطلقوا
حكمهم عليه تعالى وما في الكفر أسمج من هذا ولا أطم ولا أبرد.
قال أبو محمد: ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه أن الناس ليسوا عاجزين عن
مثل هذا القرآن ولا قادرين عليه ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء ولا عن
إحياء الموتى ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها ولا قادرين على ذلك هذا نص
كلامه دون تأويل منا عليه ثم قال إن القدرة لا تقع إلا حيث يقع العجز.
قال أبو محمد: وكل هذا هوس لا يأتي به إلا الممرور وأطم من ذلك احتجاجه بأن
العجز لا يقع إلا حيث تقع القدرة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا الكذب أم
في أي عقل وجد هذا السخف وما شك ذو علم باللغة من الخاصة والعامة في بطلان
قوله وفي أن العجز ضد القدرة وأن ما قدر الإنسان عليه فلم يعجز عنه في حين
قدرته عليه وأن ما عجز عنه فلم يقدر عليه في حين عجزه عنه وإن نفي القدرة
إثبات للعجز وأن نفي العجز إثبات للقدرة ما يجهل هذا عامي ولا خاصي أصلاً
وهو أيضاً معروف بأول العقل والعجب أن يأتي بمثل هذه الدعاوي السخيفة بغير
دليل أصلاً لكن حماقات وضلالات يطلقها هذا الجاهل وأمثاله من الفساق في دين
الله تعالى فيتلقفها عنهم من أضله الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان وقد
قال الله تعالى " واعلموا أنكم غير معجزي الله " فاقتضى هذا أنهم مقدور
عليهم لله تعالى وقال تعالى " ليس بمعجز في الأرض " فوجب أنه مقدور عليه
وقال تعالى " والله على كل شيء قدير " فصح أنه غير عاجز وبالله تعالى
التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكلام في الجن ووسوسة الشيطان وفعله في المصروع
قال أبو محمد: لم ندرك بالحواس ولا علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضاً بضرورة العقل لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز وجل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء فيسكنهم الأرض والهواء والماء وبين أن يخلق خلقا عنصرهم النار والهواء فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال قال تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ".
قال أبو محمد: وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى " إنه يراكم هو وقبيله
من حيث لا ترونهم " فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز وجل " إلا إبليس
كان من الجن ".
قال أبو محمد: وإذ أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم أو
رآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما
نص رسول الله ﷺ أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت
دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقا يراه أهل المدينة أو كما قال عليه
السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله ﷺ
ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله ﷺ وإنما هي منقطعات
أو عمن لا خير فيه.
قال أبو محمد: وهم أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما
أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز وجل " والجان خلقناه من
قبل من نار السموم " والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون
في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان
والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا
أجساما صافية رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس وصح النص بأنهم يوسوسون
في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك
حقيقة وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتوصلون بها إلى قذف ما يوسوسون
به في النفوس برهان ذلك قول الله تعالى " من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس
في صدور الناس من الجنة والناس " ونحن نشاهد الإنسان يرى من له عنده ثار
فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته ويرى من يحب فيثور له
حال أخرى ويبتهج وينبسط ويرى من يخاف فتحدث له حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف
نفس ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحل بها طبائعه فيغضبه مرة ويخجله أخرى
ويفزعه ثالثة ويرضيه رابعة وكذلك يحيله أيضا بالكلام إلى جميع هذه الأحوال
فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف
فيها بما يستدعونها إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار
الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر: قال أبو محمد:
وأما الصرع فان الله عز وجل قال " الذي يتخبطه الشيطان من المس " فذكر عز
وجل تأثير الشيطان في المصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على
ذلك شيئا ومن زاد على هذا شيئا فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل
قال عز وجل " ولا تقف ما ليس لك به علم " وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف
البتة إلا بخبر صحيح عنه ﷺ ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله
تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه كما جاء في
القرآن يثير به طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به
عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ
كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات
من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد وأما قول رسول الله ﷺ أن
الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا
زالت فارقها فإذا أجنحت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهى عن الصلاة في
هذه الأوقات أو كما قال عليه السلام مما هذا معناه بلا شك فقد قلنا أنه
عليه السلام لا يقول إلا الحق وأن كلامه كله على ظاهره إلا أن يأتي نص بأن
هذا النص ليس على ظاهره فنسمع ونطيع أي يقوم بذلك برهان من ضرورة حس أو أول
عقل فنعلم أنه عليه السلام إنما أراد ما قد قام بصحته البرهان لا يجوز غير
ذلك وقد علمنا يقينا أن الشمس في كل دقيقة طالعة على أفق من الآفاق مرتفعة
على آخر مستوية على ثالث زائلة عن رابع جانحة للغروب على خامس غاربة على
سادس هذا ما لاشك فيه عند كل ذي علم بالهيئة فإذ ذلك كذلك فقد صح يقينا أنه
عليه السلام إنما عني بذلك أفقا ما دون سائر الآفاق لا يجوز غير ذلك إذ لو
أراد كل أفق لكان الإخبار بأنه يفارقها كذبا وحاشا له من ذلك فإذ لا شك في
هذا كله فلا مرية أنه عليه الصلاة والسلام إنما عني به أفق المدينة إذ هو
الأفق الذي أخبر أهله بهذا الخبر فأنبأهم بما يقارن الشمس في تلك الأحوال
وما يفارقها من الشيطان والله أعلم بذلك القرآن ما هو لا نزيد على هذا إذ
لا بيان عندنا فيما بينه إلا أنه ليس شيء من ذلك بممتنع أصلاً فصح بما
ذكرنا أن أول الخبر خاص كما وصفنا وأن نهيه عن الصلاة في الأوقات قصة أخرى
وقضية ثانية وحكم غير الأول فهو على عمومه في كل زمان وكل مكان إلا ما قام
البرهان على تخصيصه من هذا الحكم بنص آخر كما بينا في غير هذا الكتاب في
كتب الصلاة من تآليفنا والحمد لله رب العالمين كثيرا.
الكلام في الطبائع
قال أبو محمد: ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة وقالوا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلاً وقالوا إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة قالوا ولا في الخمر طبيعة إسكار ولا في المني قوة يحدث بها حيوان ولكن الله عز وجل يخلق منه ما شاء وقد كان ممكنا أن يحدث من مني الرجال جملا ومن مني الحمار إنسانا ومن زريعة الكزبر نخلا.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلاً وقد ناظرت
بعضهم في ذلك فقلت له إن اللغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة
العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والبحيرة والغريزة والسجية
والسيمة والجبلة بالجيم ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في
الجاهلية وسمعها النبي ﷺ فلم ينكرها قط ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله
عنهم ولا أحد ممن بعدهم حتى حدث من لا يعتد به وقد قال امرؤ القيس: وإن
كنت قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقال حميد بن ثور الهلالي
الكندي: لكل امرئ يا أم عمرو طبيعة وتفرق ما بين الرجال الطبائع وقال
النابغة: لهم سيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب وقال
رسول الله ﷺ للجارود إذ أخبره أن فيه الحلم والأناة فقال له الجارود الله
جبلني عليهما يا رسول الله أم هما كسب فقال رسول الله ﷺ بل الله جبلك
عليهما ومثل هذا كثير وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة بمعنى واحد عندهم وهو
قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقوال بهذا
في الناس خاصة فقلت له وأني لك بالتخصيص وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في
كل مخلوق في العالم فلم يكن عنده تمويه.
قال أبو محمد: وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة لأنهم جعلوا امتناع شق
القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم
إنما هي عادات فقط.
قال أبو محمد: معاذ الله من هذا ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز
أصلاً لأن المادة في لغة العرب والدأب والدين والديدان والهجري ألفاظ
مترادفة على معنى واحد وهي في أكثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن تركه
إياه ولا ينكر زواله عنه بل هو ممكن وجود غيره ومثله بخلاف الطبيعة التي
الخروج عنها ممتنع فالعادة في استعمال العرب العامة التلحي وحمل القناة
وتحمل بعض الناس القلنسوة وكاستعمال بعضهم حلق الشعر وبعضهم توفيره. تقول
وقد دارت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني وقال آخر ومن عاداته الخلق
الكريم.
و قال آخر: قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يصحبنه في كل مرتحل وقال آخر
عودت كندة عادات فصبرا لها.
و قال آخر: وشديد عادة منتزعه.
فذكر أن انتزاع العادة يشتد إلا أنه ممكن غير ممتنع بخلاف إزالة الطبيعة
التي لا سبيل إليها وربما وضعت العرب لفظة العادة مكان لفظة الطبيعة كما
قال حميد بن ثور الهلالي: سلي الربع إن يممت يا أم سالم وهل عادة للربع أن
يتكلما قال أبو محمد: وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل
فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدا ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل
كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكنا له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه
آفة وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك وكطبيعة البر أن لا
ينبت شعيرا ولا جوزا وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي
الطبيعة نفسها لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به لا يتوهم
زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت
خلاً وبطل اسم الخمر عنها وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت
زبلا وسقط اسم الخبز واللحم عنهما وهكذا كل شئ له صفة ذاتية فهذه هي
الطبيعة ومن الصفات المحمولة في الموصوف ما لو توهم زواله عنه لم يبطل
حامله ولا فارقه اسمه وهذا القسم ينقسم أقساما ثلاثة فأحدها ممتنع الزوال
كالغطس والقصر والزرق وسواد الزنجي ونحو ذلك إلا أنه لو توهم زايلا لبقي
الإنسان إنسانا بحاله وثانيها بطيء لزوال كالمرودة وسواد الشعر وما أشبه
ذلك وثالثها سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الهم ونحو ذلك فهذه
هي حقيقة الكلام في الصفات وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون
حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان.
نبوة النساء
قال أبو محمد: هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة وفي زماننا فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدعت من قال ذلك وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك.
قال أبو محمد: ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلاً إلا أن بعضهم نازع في ذلك بقول الله قال أبو محمد: وهذا أمر لا ينازعون فيه ولم يدع أحد أن الله تعالى أرسل امرأة وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الأنباء وهو الإعلام فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحي إليه منبئا له بأمر ما فهو نبي بلا شك وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة كقول الله تعالى " وأوحى ربك إلى النحل " ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون ولا من باب الكهانة التي هي من استراق الشياطين السمع من السماء فيرمون بالشهب الثواقب وفيه يقول الله عز وجل " شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله ﷺ ولا من باب النجوم التي هي تجارب تتعلم ولا من باب الرؤيا التي لا يدري أصدقت أم كذبت بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به ويكون عند الوحي به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة يحدث الله عز وجل لمن أوحى به إليه علما ضروريا بصحة ما أوحي به كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء لا مجال للشك في شيء منه إما بمجئ الملك به إليه وإما بخطاب يخاطب به في نفسه وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه دون وساطة معلم فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة فليعرفونا ما معناها فإنهم لا يأتون بشيء أصلاً فإذ ذلك كذلك فقد جاء القرآن بأن الله عز وجل أرسل ملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالي قال عز وجل " وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ " فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عز وجل بالبشارة لها بإسحاق ثم يعقوب ثم بقولهم لها أتعجبين من أمر الله ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى عليهما السلام بخطابها وقال لها " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ورسالة من تعالى إليها وكان زكريا عليه السلام يجد عندها من الله تعالى رزقا واردا تمنى من أجله ولدا فاضلا ووجدنا أم موسى عليهما الصلاة والسلام قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليم وأعلمها أنه سيرده إليها ويجعله نبيا مرسلا فهذه نبوة لا شك فيها وبضرورة العقل يدري كل ذي تمييز صحيح أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وجل لها لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجستها في غاية الجنون والمرار الهائج ولو فعل ذلك أحدنا لكان غاية الفسق أو في غاية الجنون مستحقا لمعاناة دماغه في البيمارستان لا يشك في هذا أحد فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده لكنه ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق أو مجنونا في غاية الجنون هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس فصحت نبوتهن بيقين ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهم السلام في سورة كهعيص ذكر مريم في جملتهم ثم قال عز وجل " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " وهذا هو عموم لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم وليس قوله عز وجل وأمه صديقة بمانع من أن تكون نبية فقد قال تعال " يوسف أيها الصديق " وهو مع ذلك نبي رسول وهذا ظاهر وبالله تعالى التوفيق ويلحق بهن عليهن السلام في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله ﷺ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون أو كما قال عليه الصلاة والسلام والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن من دونهم ناقص عنهم بلا شك وكان تخصيصه ﷺ مريم وامرأة فرعون تفضيلا لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقيقة فلم يكمل فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالا لم يلحقهما فيه امرأة غيرهما أصلاً وإن كن بنصوص القرآن نبيات وقد قال تعالى " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " فالكامل في نوعه هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل ومنه نبينا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام بلا شك للنصوص الواردة بذلك في فضلهما على غيرهما وكمل من النساء من ذكر عليه الصلاة والسلام.
الكلام في الرؤيا
قال أبو محمد: ذهب صالح تلميذ النظام إلى أن الذي يري أحدنا في الرؤيا حق كما هو وأنه من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس فإن الله عز وجل اخترعه في ذلك الوقت بالصين.
قال أبو محمد: وهذا القول في غاية الفساد لأن العيان والعقل يضطران إلى كذب هذا القول وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حينئذ هذا النائم عندنا وهو يرى نفسه في ذلك الوقت بالصين وأما من طريق العقل فهو معرفتنا بما يرى الحالم من المحالات من كونه مقطوع الرأس حيا وما أشبه ذلك وقد صح عن رسول الله ﷺ أن رجلا قص عليه رؤيا فقال لا تخبر بتلعب الشيطان بك.
قال أبو محمد: والقول الصحيح في الرؤيا هو أنها أنواع فمنها ما يكون من قبل الشيطان وهو ما كان من الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط ومنها ما يكون من حديث النفس وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدو أو لقاء حبيب أو خلاص من خوف أو نحو ذلك ومنها ما يكون من غلبة الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار ولزهر والحمرة والسرور ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عليه السوداء الكهوف والظلم والمخاوف ومنها ما يريه الله عز وجل نفس الحالم إذا صفت من أكدار الجسد وتخلصت من الأفكار الفاسدة فيشرف الله تعالى به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق وقد جاء عن النبي ﷺ أنه لم يبق بعده من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له وأنها جزء من ستة وعشرين جزأ من النبوة إلى جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة إلى جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذا نص جلي على ما ذكرنا من تفاضلها في الصدق والوضوح والصفاء من كل تخليط وقد تخرج هذه النسب والأقسام على أنه عليه السلام إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهم السلام فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزأ من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله ومنهم من رؤياه جزء من ستة وأربعين جزأ من نبوته وخصايصه وفضايله ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل بتكلف وأما رؤيا غير الأنبياء فقد تكذب وقد تصدق إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته حاشا رؤيا الأنبياء فإنها كلها وحي مقطوع على صحته كرؤيا إبراهيم عليه السلام ولو رأى ذلك غير نبى في الرؤيا فأنفذه في اليقظة لكان فاسقا عابثا أو مجنونا ذاهب التمييز بلا شك وقد تصدق رؤيا الكافر ولا تكون حينئذ جزأ من النبوة ولا مبشرات ولكن إنذارا له أو لغيره ووعظا وبالله تعالي التوفيق.
الكلام في أي الخلق أفضل
قال أبو محمد: ذهب قوم إلا أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة وذهبت طائفة تنتسب إلى الإسلام أن الصالحين غير النبيين أفضل من الملائكة وذهب بعضهم إلى أن الولي أفضل من النبي وأنه يكون في هذه الأمة من هو أفضل من عيسى بن مريم ورأيت الباقلاني يقول جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حين بعث إلى أن مات ورأيت لأبي هاشم الجبائى أنه لو طال عمر إنسان من المسلمين في الأعمال الصالحة لأمكن أن يوازي عمل النبي ﷺ كذب لعنه الله.
قال أبو محمد: ولولا أنه استحيا قليلا مما لم يستحي من نظيره الباقلاني لقال ما يوجبه هذا القول من أنه كان يزيد فضلا على رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وهذه الأقوال كفر مجرد لا تردد فيه وحاشا لله تعالى من أن يكون أحد ولو عمر عمر الدهر يلحق فضل صاحب فكيف فضل رسول الله ﷺ أو نبي من الأنبياء عليهم السلام فكيف يكون أفضل من رسول الله صلى لله عليه وسلم هذا ما لا تقبله نفس مسلم كأنهم ما سمعوا قول الله عز وجل " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " وقول النبي ﷺ دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
قال أبو محمد: فكيف يلحق أبدا من أن تصدق هو بمثل جبل أحد ذهبا وتصدق الصاحب بنصف مد من شعير كان نصف مد الشعير لا يلحقه في الفضل جبل الذهب فكيف برسول الله ﷺ قال أهل الحق أن الملائكة أفضل من كل خلق حلقه الله تعالى ثم بعدهم الرسل من النبيين عليهم السلام ثم بعدهم الأنبياء غير الرسل عليهم السلام ثم أصحاب رسول الله ﷺ على ما رتبنا قبل.
قال أبو محمد: ومن صحب رسول الله ﷺ من الجن له من الفضل ما لسائر الصحابة بعموم قوله ﷺ دعوا إلي أصحابي وأفضل الرسل محمد ﷺ أما فضل الملائكة على الرسل من غير الملائكة فلبراهين منها قول الله عز وجل أمراً لرسول الله ﷺ أن يقول " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ " فلو كان الرسول أرفع من الملك أو مثله ما أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يقول لهم هذا القول الذي إنما قاله منحطا عن الترفع بأن يظن أنه عنده حزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك منزل لنفسه المقدسة في مرتبته التي هي دون هذه المراتب بلا شك إذ لا يمكن البتة أن يقول هذا عن مراتب هو أرفع منها وأيضا فأن الله عز وجل ذكر محمدا الذي هو أفضل الرسل بعد الملائكة وذكر جبريل عليهما السلام وكان التباين من الله عز بينهما تبايناً بعيدا وهو أنه عز وجل قال " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فهذه صفة جبريل عليه السلام ثم ذكر محمدا ﷺ فقال " وما صاحبكم بمجنون " ثم زاد تعالى بيانا رافعا للإشكال جملة فقال " ولقد رآه بالأفق المبين " فعظم الله تعالى من شأن أكرم الأنبياء والرسل بأن رأى جبريل عليه السلام ثم قال " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى " فأمتن الله تعالى كما ترى على محمد ﷺ بأن أراه جبريل مرتين وإنما يتفاضل الناس كما قدمنا بوجهين فقط أحدهما الاختصاص المجرد وأعظم الاختصاص الرسالة والتعظيم فقد حصل ذلك للملائكة قال تعالى " جاعل الملائكة رسلا " فهم كلهم رسل الله ثم اختصهم تعالى بأن ابتدأهم في الجنة وحوالي عرشه في المكان الذي وعد رسله ومن اتبعهم بأن نهاية كرامتهم مصيرهم إليه وهو موضع خلق الملائكة ومحلهم بلا نهاية مذ خلقوا وذكرهم عز وجل في غير موضع من كتابه فأثنى على جميعهم ووصفهم بأنهم لا يفترون ولا يسأمون ولا يعصون الله فنفي عنهم الزلل والفترة والسآمة والسهو وهذا أمر لم ينفه عز وجل عن الرسل صلوات الله عليهم بل السهو جائز عليهم وبالضرورة نعلم من عصم من السهو أفضل ممن لم يعصم منه وأن من عصم من العمد كالأنبياء عليهم السلام أفضل ممن لم يعصم ممن سواهم فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " قيل له ليس هذا معارضا لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فإن كل آية فإنما تحمل على مقتضاها وموجب لفظها ففي هذه الآية إن بعض الملائكة رسل وهذا حق لا شك فيه وليس إخبارا عن سائرهم بشيء لا بأنهم رسل ولا بأنهم ليسوا رسلا فلا يحل لأحد أن يزيد في الآية ما ليس فيها ثم في الآية الأخرى زيادة على ما في هذه الآية وإخبار بأن جميع الملائكة رسل ففي تلك الآية بعض ما في هذه الآية وفي هذه الآية كل ما في تلك وزيادة ففرض قبول كل ذلك كما أن الله عز وجل إذ ذكر في كهعيص من ذكر من النبيين فقال " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " وقد قال تعالى " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " أفترى الرسل الذين لم يقصصهم الله تعالى عليه جملة أو في هذه السورة خاصة لم ينعم عليهم معاذ الله من هذا فما يقوله مسلم والوجه الثاني من أوجه الفضل هو تفاضل العاملين بتفاضل منازلهم في أعمال الطاعة والعصمة من المعاصي والدنيات وقد نص الله تعالى على أن الملائكة لا يفترون من الطاعة ولا يسأمون منها ولا يعصون البتة في شيء أمروا به فقد صح أن الله عز وجل عصمهم من الطبائع الناقصة الداعية إلى الفتور والكسل كالطعام والتغوط وشهوة الجماع والنوم فصح يقينا أنهم أفضل من الرسل الذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما.
قال أبو محمد: واحتج بعض المخالفين في هذا بأن قال قال الله عز وجل " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " قالوا فدخل في العالمين الملائكة وغيرهم.
قال أبو محمد: وهذه الآية قد صح البرهان بأنها ليست على عمومها لأنه تعالى
لم يذكر فيها محمدا ﷺ ولا خلاف في أنه أفضل الناس قال الله تعالى " كنتم
خير أمة أخرجت للناس " فإن قال أن آل إبراهيم هم آل محمد قيل له فنحن إذا
أفضل من جميع الأنبياء حاشا آل عمران وآدم ونوحا فقط وهذا لا يقوله مسلم
فصح يقينا أن هذه الآية ليست على عمومها فإذ لاشك في ذلك فقد صح أن الله عز
وجل إنما أراد بها عالمي زمانهم من الناس لا من الرسل ولا من النبين نعم
ولا من عالمي غير زمانهم أننا بلا شك أفضل من آل عمران فبطل تعلقهم بهذه
الآية جملة وبالله تعالى التوفيق وصح أنها مثل قوله تعالى " يا بني إسرائيل
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين " ولا شك في أنهم
لم يفضلوا على الرسل ولا على النبيين ولا على أمتنا ولا على الصالحين من
غيرهم فكيف على الملائكة ونحن لا ننكر إزالة للنص عن ظاهره وعمومه ببرهان
من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن
ظاهره وعمومه بالدعوى فهذا هو الباطل الذي لا يحل في دين ولا يصح في إمكان
العقل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذكر بعضهم قول الله عز وجل " الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك هم خير البرية " قال أبو محمد: وهذا مما لاحجة لهم فيه أصلاً لأن هذه
الصفة تعم كل مؤمن صالح من الإنس ومن الجن نعم وجميع الملائكة عموما
مستويا فإنما هذه لآية تفضيل الملائكة والصالحين من اإنس والجن على سائر
البرية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليهم لأن السجود المأمور به لا يخلو من أن
يكون سجود عبادة وهذا كفر ممن قاله ولا يجوز أن يكون الله عز وجل يأمر
أحداً من خلقه بعبادة غيره وإما ان يكون سجود تحية وكرامة وهو كذلك بلا
خلاف من أحد من الناس فإذ هو كذلك فلا دليل أدل على فضل الملائكة على آدم
من أن يكون الله تعالى بلغ الغاية في إعظامه وكرامته بأن تحييهم الملائكة
لأنهم لو كانوا دونه لم يكن له كرامة ولا مزية في تحيتهم له وقد أخبر الله
عز وجل يوسف عليه السلام فقال " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال
يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " وكانت رؤياه هي التي ذكر
الله عز وجل عنه إذ يقول " إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ
لِي سَاجِدِينَ ".
قال أبو محمد: وليس في سجود يعقوب عليه السلام ليوسف ما يوجب أن يوسف أفضل
من يعقوب واحتجوا أيضا بأن الملائكة لم يعلموا أسماء الأشياء حتى أنبأهم
بها آدم على جميعهم السلام بتعليم الله عز وجل آدم إياها.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عز وجل يعلم من هو أنقص فضلا
وعلما في الجملة أشياء لا يعلمها من هو أفضل منه وأعلم منه بما عدا تلك
الأشياء فعلم الملائكة ما لا يعلمه آدم وعلم آدم أسماء الأشياء ثم أمره بأن
يعلمها الملائكة كما خص الخضر عليه السلام بعلم لم يعلمه موسى عليه السلام
حتى اتبعه موسى عليه السلام ليتعلم منه وعلم أيضا موسى عليه السلام علوما
لم يعلمها الخضر وهكذا صح عن النبي ﷺ أن الخضر قال لموسى عليه السلام إنى
على علم من علم الله لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله لا أعلمه أنا.
قال أبو محمد: ولي في هذا أن الخضر أفضل من موسى عليه السلام.
قال أبو محمد: وقد قال بعض الجهال إن الله تعالى جعل الملائكة خدام أهل
الجنة يأتونهم بالتحف من عند ربهم عز وجل قال تعالى " تتلقاهم الملائكة هذا
يومكم الذي كنتم توعدون " وقال تعالى " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب
سلام عليكم بما صبرتم ".
قال أبو محمد: أما خدمة الملائكة لأهل الجنة وإقبالهم إليهم بالتحف فشيء ما
علمناه قط ولا سمعناه إلا من القصاص بالخرافات والتكاذيب وإنما الحق من
ذلك ما ذكره الله عز وجل في النص الذي أوردنا وهو ولله الحمد من أقوى الحجج
في فضل الملائكة على من سواهم ويلزم هذا المحتج إذ كان إقبال الملائكة
بالبشارات إلى أهل الجنة دليلا على فضل أهل الجنة عليهم أن يكون إقبال
الرسل إلينا مبشرين ومنذرين بالبشارات من عند الله عز وجل دليلا على أننا
أفضل منهم وهذا كفر مجرد ولكن الحقيقة هي أن الفضل إذ كان للأنبياء عليهم
السلام على الناس بأنهم رسل الله اليهم ووسائط بين ربهم تعالى وبينهم
فالفضل واجب للملائكة على الأنبياء والرسل لكونهم رسل الله تعالى إليهم
ووسائط بينهم وبين ربهم تعالى وأما تفضل الله تعالى على أهل الجنة بالأكل
والشرب والجماع واللباس والآلات والقصور فإنما فضلهم الله عز وجل من ذلك
بما يوافق طباعهم وقد نزه الله سبحانه الملائكة عن هذه الطبائع المستدعية
لهذه اللذات بل أبانهم وفضلهم بل جعل طبائعهم لا تلتذ بشئ من ذلك إلا بذكر
الله عز وجل وعبادته وطاعته في تنفيذ أوامره تعالى فلا منزلة أعلى من هذه
وعجل لهم سكنى المحل الرفيع الذي جعل تعالى غاية إكرامنا الوصول إليه بعد
لقاء الأمرين في التعب في عمارة هذه الدنيا النكدة وفي كلف الأعمال ففي ذلك
المكان خلق الله عز وجل الملائكة منذ ابتدأهم وفيه خلدهم وبالله تعالى
التوفيق.
قال أبو محمد: وقال بعض السخفاء أن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح.
قال أبو محمد: وهذا كذب وقحة وجنون لأن الملائكة بنص القرآن والسنن وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلا متعبدون منهيون مأمورون وليس كذلك الهواء والرياح لكنها لا تعقل ولا هي متكلفة متعبدة بل هي مسخرة مصرفة ولا اختيار لها قال تعالى " والسحاب المسخر بين السماء والارض " وقال تعالى " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام " وذكر تعالى الملائكة فقال " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وقال تعالى " ويستغفرون لمن في الأرض " وقال تعالى " وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا " فقرن تعالى نزول الملائكة برؤيته تعالى وقرن تعالى إتيانه بإتيان الملائكة فقال عز وجل " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " واعلم أن إعراب الملائكة هاهنا بالرفع عطفا على الله عز وجل لا على الغمام ونص تعالى على أن آدم عليه الصلاة والسلام إنما أكل من الشجرة ليكون ملكا أو ليخلد كما قص تعالى علينا إذ يقول عز وجل " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ".
قال أبو محمد: فبيقين ندري أن آدم عليه السلام لولا يقينه بأن الملائكة
أفضل منه وطمعه بأن يصير ملكا لما قبل من أبليس ما غره به من أكل الشجرة
التي نهاه الله عز وجل عنها ولو علم آدم أن الملك مثله أو دونه لما حمل
نفسه على مخالفة أمر الله تعالى لينحط عن منزلته الرفيعة إلى الدون هذا ما
لايظنه ذو عقل أصلاً.
قال أبو محمد: وقال عز وجل " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا
الملائكة المقربون " فقوله عز وجل بعد ذكر المسيح ولا الملائكة المقربون
بلوغ الغاية في علو درجتهم على المسيح عليه السلام لأن بنية الكلام ورتبته
إنما هي إذا أراد القائل نفي صفة ما عن متواضع عنها أن يبدأ بالأدني ثم
بالأعلى وإذا أراد نفي صفة ما عن مترفع عنها أن يبدأ بالأعلى ثم بالأدني
فنقول في القسم الأول ما يطمع في الجلوس بين يدي الخليفة خازنه ولا وزيره
ولا أخوه ونقول في القسم الثاني ما ينحط إلى الأكل في السوق وال ولا ذو
مرتبة ولا متصاون من التجار أو الصناع لا يجوز البتة غير هذا وبالله تعالى
التوفيق.
قال أبو محمد: وأيضا فإن رسول الله ﷺ أخبر بأن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة من نور وخلق الإنسان من طين وخلق الجن من نار.
قال أبو محمد: ولا يجهل فضل النور على الطين وعلى النار أحد إلا من لم يجعل
الله له نورا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وقد صح أن رسول الله
ﷺ دعا ربه في أن يجعل في قلبه نورا فالملائكة من جوهر دعا أفضل البشر ربه
في أن يجعل في قلبه منه وبالله تعالى التوفيق وفي هذا كفاية لمن عقل.
قال أبو محمد: وقال عز وجل " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر "
إلى قوله " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فإنما فضل الله تعالى
بنص كلامه عز وجل بني آدم على كثير ممن خلق لا على كل من خلق وبلا شك أن
بنى آدم يفضلون على الجن وعلى جميع الحيوان الصامت وعلى ما ليس حيوانا فلم
يبق خلق يستثني من تفضيل الله تعالى بني آدم عليه إلا الملائكة فقط.
قال أبو محمد: وأما فضل رسول الله ﷺ على كل رسول قبله فالثابت عنه عليه
السلام أنه قال فضلت على الأنبياء بست وروي بخمس وروي بأربع وروي بثلاث
رواه جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وبقوله ﷺ
أنا سيد ولد آدم ولا فخر وإنه عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وأنه
عليه السلام أكثر الأنبياء اتباعا وأنه ذو الشفاعة التي يحتاج إليها يوم
القيامة فيها النبيون فمن دونهم أماتنا الله على ملته ولا خالف بنا عنع وهو
أيضاً عليه السلام خليل الله وكليمه.
الكلام في الفقر والغنى
قال أبو محمد: اختلف قوم في أي الأمرين أفضل الفقر أم الغنى.
قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو العامل لا الحالة محمولة فيه إلا أن يأتي نص بتفضيل الله عز وجل حالا على حال وليس هاهنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى.
قال أبو محمد: وإنما الصواب أن يقال أيما أفضل الغني أم الفقير والجواب هاهنا هو ما قاله الله تعالى إذا يقول " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فإن كان الغني أفضل عملا من الفقير فالغنى أفضل وإن كان الفقير أفضل عملا من الغنى فالفقير أفضل وإن كان عملهما متساويا فهما سواء قال عز وجل "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد استعاذ النبي صلى الله عليه ومن فتنة الفقر وفتنة الغنى وجعل الله عز وجل الشكر بإزاء الغنى والصبر بإزاء الفقر فمن أبقى الله عز وجل فهو الفاضل غنيا كان أو فقيرا وقد اعترض بعضهم ها هنا بالحديث الوارد أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بكذا وكذا خريفا ونازع الآخرون بقول الله عز وجل " ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ".
قال أبو محمد: والغنى نعمة إذا قام بها حاملها بالواجب عليه فيها وأما
فقراء المهاجرين فهم كانوا أكثر وكان الغني فيهم قليلا والأمر كله منهم وفي
غيرهم راجع إلى العمل بالنص والإجماع على أنه تعالى لا يجزي بالجنة على
فقر ليس معه عمل خير ولا على غنى ليس معه عمل خير وبالله التوفيق.
الكلام في الاسم والمسمى
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمي وقال آخرون الاسم غير المسمى واحتج من قال أن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى " تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام " ويقرأ أيضا ذو الجلال والإكرام قال ولا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك وبقوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " فقالوا ومن الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره وبقوله عز وجل " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " وقالوا الاسم مشتق من السمو وأنكروا على من قال أنه مشتق من الوسم وهو العلامة وذكروا قول لبيد " إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وقالوا قال سيبويه الأفعال أمثلة احدث من لفظ أحداث الأسماء قالوا وإنما أراد المسمين هذا كل ما احتجوا به قد تقصيناه لهم ولا حجة لهم في شئ منه أما قول الله عز وجل تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام وذو الجلال فحق ومعنى تبارك تفاعل من البركة والبركة واجبة لاسم الله عز وجل الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجله ونكرمه فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى وله الإكرام من الله تعالى ومنا حيثما كان من قرطاس أو في شيء منقوش فيه أو مذكور بالألسنة ومن لم يجل اسم الله عز وجل كذلك ولا إكرامه فهو كافر بلا شك فالآية على ظاهرها دون تأويل فبطل تعلقهم بها جملة ولله تعالى الحمد وكل شيء نص الله تعالى عليه أنه تبارك فذلك حق ولو نص تعالى بذلك على أي شئ كان من خلقه كان واجبا لذلك الشيء وأما قوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل هو تنزيه الشئ عن السوء وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به ووجه آخر وهو أن معني قوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " ومعنى قوله تعالى " إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم " معنى واحد وهو أن يسبح الله تعالى باسمه ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص ولا فرق بين قوله تعالى " فسبح باسم ربك العظيم " وبين قوله " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ " والحمد بلا شك هو غير الله وهو تعالى نسبح بحمده كما نسبح باسمه ولا فرق فبطل تعلقهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: أما قوله تعالى " ما تعبدون من دونه إلا اسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم " فقول الله عز وجل حق على ظاهره ولهذه الآية وجهان كلاهما صحيح
أحدهما أن معنى قوله عز وجل " ما تعبدون من دونه إلا أسماء أي إلا أصحاب
أسماء برهان " هذا قوله تعالى إثر ذلك متصلا بها سميتموها أنتم وآباؤكم فصح
يقينا أنه تعالى لم يعن بالأسماء هاهنا ذوات المعبودين لأن العابدين لها
لم يحدثوا قط ذوات المعبودين بل الله تعالى توحد بإحداثها هذا ما لا شك فيه
والوجه الثاني أن أؤلئك الكفار إنما كانوا يعبدون أوثانا من حجارة أو بعض
المعادن أو من خشب وبيقين ندري انهم قبل أن يسموا تلك الجمل من الحجارة ومن
المعادن ومن الخشب باسم اللات والعزي ومناة وهبل وود وسواع ويغوث ويعوق
ونسرا وبعل قد كانت ذواتها بلا شك موجودات قائمة وهم لا يعبدونها ولا تستحق
عندهم عبادة فلما أوقعوا عليها هذه الأسماء عبدوها حينئذ فصح يقينا أنهم
لم يقصدوا بالعبادة إلا الأسماء كما قال الله تعالى لا الذوات المسميات
فعادت الآية حجة عليهم وبرهانا على أن الاسم غير المسمي بلا شك وبالله
تعالى التوفيق وأما قولهم أن الاسم مشتق من السمو وقول بعض من خالفهم انه
مشتق من الوسم فقولان فاسدان كلاهما باطل افتعله أهل النحو لم يصح قط عن
العرب شيئا منهما وما اشتق لفظ الاسم قط من شيء بل هو اسم موضوع مثل حجر
وجبل وخشبة وسائر الأسماء لا اشتقاق لها وأول ما تبطل به دعواهم هذه
الفاسدة أن يقال لهم قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين "
فصح أن من لا برهان له على صحة دعواه فليس صادقا في قوله فهاتوا برهانكم
على أن الاسم مشتق من السمو أو من الوسم وإلا فهي كذبة كذبتموها على العرب
وافتريتموها عليهم أو على الله تعالى الواضع للغات كلها وقول عليه تعالى أو
على العرب بغير علم وإلا فمن أين لكم أن العرب اجتمعوا فقالوا نشتق لفظة
اسم من السمو أو من الوسم والكذب لا يستحله مسلم ولا يستسهله فاضل ولا سبيل
لهم إلى برهان أصلاً بذلك وأيضا فلو كان الاسم مشتقا من السمو كما تزعمون
فتسمية العذرة والكلب والجيفة والقذر والشرك والخنزير والخساسة رفعة لها
وسمو لهذه المسميات وتباً لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد وأيضاً فهبك
أنه قد سلم لهم قولهم أن الاسم مشتق من السمو أي حجة في ذلك على أن الاسم
هو المسمى بل هو حجة عليهم لأن ذات المسمي ليست مشتقة أصلاً ولا يجوز عليها
الاشتقاق من السمو ولا من غيره فصح بلا شك أن ما كان مشتقا فهو غير ما ليس
مشتقا والاسم بإقرارهم مشتق والذات المسماى غير مشتقة فالاسم غير الذات
المسماة وهذا يليح لكل من نصح نفسه أن المحتج بمثل هذا السفه عيار مستهزيء
بالناس متلاعب بكلامه ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وهذا قول يؤدي من اتبعه وطرده إلى الكفر المجرد لأنهم قطعوا
أن الاسم مشتق من السمو وقطعوا أن الاسم هو الله نفسه فعلى قولهم المهلك
الخبيث أن الله يشتق و أن ذاته نفسها مشتقة وهذا ما لا ندري كافرا بلغه
والحمد لله على ما من به من الهدي وأيضا فإن الله تعالي يقول " وعلم آدم
الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم
صادقين " إلى قوله تعالى " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ".
قال أبو محمد: فلا يخلو أن يكون الله عز وجل علم آدم الاسماء كلها كما قال
عز وجل إما بالعربية وإما بلغة أخرى أو بكل لغة فإن كان عز وجل علمه
الأسماء بالعربية فإن لفظة اسم من جملة ما علمه لقوله تعالي الأسماء كلها
ولأمر تعالى آدم بأن يقول للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء فلا يجوز أن يخص
من هذا العموم شيء أصلاً بل هو لفظ موقف عليه كسائر الأسماء ولا فرق وهو من
جملة ما علمه الله تعالى آدم عليه السلام إلا أن يدعوا أن الله تعالى
لشتقه فالقوم كثيرا ما يستسهلون الكذب على الله تعالى والإخبار عنه بما لا
علم لهم به فصح يقينا أن لفظة الاسم لا اشتقاق لها وإنما هي اسم مبتدأ
كسائر الأسماء والأنواع والأجناس وأن كان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها
بغير العربية فإن اللغة العربية موضوعة للترجمة عن تلك اللغة بدل كل اسم من
تلك اللغة اسم من العربية موضوع للعبارة عن تلك الألفاظ وإذا كان هذا فلا
مدخل للاشتقاق في شيء من الأسماء أصلاً لا لفظة اسم ولا غيرها وإن كان
تعالى علمه الأسماء بالعربية وبغيرها من اللغات العربية فلفظة اسم من جملة
ما علمه وبطل أن يكون مشتقا أصلاً والحمد لله رب العالمين فبطل قولهم في
اشتقاق الاسم وعاد حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وأما بيت لبيد فإنه يخرج
على وجهين أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله تعالى قال ى تعالى " الملك
القدوس السلام المؤمن المهيمن " ولبيد رحمه الله مسلم صحيح الصحبة للنبى ﷺ و
معناه ثم اسم الله عليكما حافظ لكما والوجه الثاني أنه أراد بالسلام
التحية ولبيد لا يقدر هو ولا غيره على إيقاع التحية عليهما وإنما يقدر لبيد
وغيره على إيقاع اسم التحية والدعاء بها فقط فأي الأمرين كان فاسم السلام
في بيت هو غير معنى السلام فالاسم في ذلك البيت غير المسمى ولا بد ثم لو صح
ما يدعونه على لبيد ولو صح لكان قول عائشة رحمها الله ورضي الله عنها إنما
أهجر اسمك بيانا أن الاسم غير المسمى وأن اسمه عليه السلام غيره لأنها
أخبرت أنها لا تهجره وإنما تهجر اسمه رضوان الله عليها وهى ليست في الفصاحة
دون لبيد وهي أولى بان تكون حجة من لبيد فكيف وقول لبيد حجة عليهم لا لهم
والحمد الله رب العالمين وقد قال رؤبة - باسم الذي في كل سورة سمر - ورؤبة
ليس دون لبيد في الفصاحة وذات الباري تعالى ليست في كل سورة وإنما في
السورة اسم الله تعالى فلا شك أن الذي في السورة غير الذي ليس فيها وقال
أبو ساسان حصين بن المنذر ابن الحارث بن وعلة الرقاشي لابنه غياظ: وسميت
غياظا ولست بغياظ عدوا ولكن الصديق تغيظ فصرح بأن الاسم غير المسمي تصريحا
لا يحتمل التأويل بخلاف ما ادعوه على لبيد وأما قول سيبويه أن الأفعال
أمثلة أحدث من لفظ إحداث الأسماء فلا حجة لهم فيه فبيقين ندري أنه أراد
إحداث أصحاب الأسماء برهان ذلك قوله في غير ما موضع من كتابه أمثلة الأسماء
من الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي والسباعي وقطعه بأن السداسى
والسباعي من الأسماء مزيدان ولا بد وأن الثلاثي من الأسماء أصلي ولا بد وأن
الرباعي والخماسي من الأسماء يكونان أصليين كجعفر وسفرجل ويكونان مزيدين
وأن الثنائى من الأسماء منقوص مثل يد ودم ولو تتبعنا قطعه على أن الأسماء
هي الأبنية المسموعة الموضوعة ليعرف بها المسميات لبلغ أزيد من ثلثمائة
موضع أفلا يستحي من يدري هذا من كلام سيبويه اطلاقا لعلمه بأن مراده لا
يخفى على أحد قرأ من من كتابه ورقتيين ونعوذ بالله من قلة الحياء وأول سطر
في كتاب سيبويه بعد البسملة هذا باب علم ما الكلم من العربية فالكلم اسم
وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فالاسم رجل وفرس فهذا بيان جلي من
سيبويه ومن كل من تكلم في النحو قبله وبعده على أن الأسماء هي بعض الكلام
وان الاسم هو كلمة من الكلم ولا خلاف بين أحد له حس سليم في أن المسمي ليس
كلمة ثم قال بعد أسطر يسيرة والرفع والجر والنصب والجزم بحروف الإعراب
وحروف الإعراب الأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين وهذا
منه بيان لا إشكال فيه أن الأسماء غير الفاعلين وهي التي تضارعها الأفعال
التي في أوائلها الزوائد الأربع وما قال قط من يرمي بالحجارة أن الأفعال
تضارع المسمين ثم قال والنصب في الأسماء رأيت زيدا والجر مررت بزيد والرفع
هذا زيد وليس في الأسماء جزم لتمكنها وإلحاق التنوين وهذا كله بيان أن
الأسماء هي الكلمات المؤلفة من الحروف المقطعة لا المسمون بها ولو تتبع هذا
في أبواب الجمع وأبواب التصغير والنداء والترخيم وغيرها لكثر جداً وكاد
يفوت التحصيل.
قال أبو محمد: فسقط كل ما شغب به القائلون بأن الاسم هو المسمى وكل قول سقط
احتجاج أهله وعري عن البرهان فهو باطل ثم نظرنا فيما احتج به القائلون أن
الاسم غير المسمى فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى " ولله الأسماء الحسنى
فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قالوا والله عز وجل واحد
والأسماء كثيرة وقد تعالى الله عن أن يكون اثنين أو أكثر وقد قال رسول الله
ﷺ أن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة قالوا ومن
قال أن خالقه أو معبوده تسعة وتسعون فهو شر من النصارى الذين لم يجعلوه إلا
ثلاثة.
قال أبو محمد: وهذا برهان ضروري لازم ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني
ولمحمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني أنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط.
قال أبو محمد: وهذا معارضة وتكذيب لله عز وجل وللقرآن ولرسول الله ﷺ ولجميع
العالمين ثم عطفا فقال ا معنى قول الله عز وجل ولله الأسماء الحسنى وقول
رسول الله ﷺ أن لله تسعة وتسعين اسما إنما هو التسمية لا الأسماء.
قال أبو محمد: وكان هذا التقسيم أدخل في الضلال من ذلك الإجمال ويقال لهم
فعلى قولكم هذا أراد الله تعالى أن يقول لله التسميات الحسنى فقال الأسماء
الحسنى وأراد رسوله ﷺ أن يقول أن لله تسعة وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين
اسما أعن غلط وخطأ قال الله تعالى ذلك ورسوله ﷺ أم عن عمد ليضل بذلك أهل
الاسلام أم عن جهل باللغة التي تنبهتما لها أنتما ولا بد من أحد هذه الوجوه
ضرورة لا محيد عنها وكلها كفر مجرد ولا بد لهم من أحدها أو ترك ما قال وه
من الكذب على الله تعالى ورسوله ﷺ هذا ودعواهم في ذلك ظاهر الكذب بلا دليل
ولا يرضي بهذا لنفسه عاقل.
الاسم على المسمى فهي شىء ثالث غير الاسم وغير المسمى فذات الخالق تعالى هي
الله المسمى والتسمية هي تحريكنا عضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف
وهي غير الحروف لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرك بفتح
الراء والإنسان هو المحرك بكسر الراء والحركة هي فعل المحرك في دفع المحرك
وهذا أمر معلوم بالحس مشاهد بالضرورة متفق عليه في جميع اللغات واحتجوا
أيضا بقول الله تعالى " يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ
اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا " وهذا نص لا
يحتمل تأويلا في أن الاسم هو الياء والحاء والياء والألف ولو كان الاسم هو
المسمي لما عقل أحد معنى قوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا ولا فهم ولكان
فارغا حاشا لله من هذا ولا خلاف في أن معناه لم يعلق هذا الاسم على أحد
قبله وذكروا أيضا قول الله عز وجل عن نفسه هل تعلم له سميا وهذا نص جلي على
أن أسماء الله تعالى التي اختص بها لا تقع على غيره ولو كان ما يدعونه لما
عقل هذا اللفظ أحد أيضا حاشا لله من هذا واحتجوا أيضا بقول الله تعالى
مبشرا برسوله يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا نص على أن الاسم هو الألف والحاء
والميم والدال إذا اجتمعت واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء
كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى
قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم
الآية وهذا نص جلى على أن الأسماء كلها غير المسميات لأن المسميات كانت
أعيانا قائمة وذوات ثابته تراها الملائكة وإنما جهلت الأسماء فقط التي
علمها الله آدم وعلمها آدم الملائكة وذكروا قول الله تعالى قل ادعوا الله
أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى وهذا ما لا حيلة لهم فيه
لأن لفظة الله هي غير لفظة الرحمن بلا شك وهي بنص القرآن أسماء الله تعالى
والمسمى واحد لا يتغاير بلا شك وذكروا قول الله عز وجل " ولا تأكلوا مما لم
يذكر اسم الله عليه " وهذا بيانا أيضا جلي مجمع عليه من أهل الإسلام أن
الذي عنده التذكية فهو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة مثل الله والرحمن
والرحيم وسائر أسمائه عز وجل واحتجوا من الإجماع بأن جميع أهل الإسلام لا
نحاشى منهم أحدا قد أجمعوا على القول بأن من حلف باسم من أسماء الله عز وجل
فحنث فعليه الكفارة ولا خلاف في أن ذلك لازم فيمن قال والله أو والرحمن أو
والصمد أو أي اسم من أسماء الله عز وجل حلف بها فما أسخف عقولا يدخل فيها
تخطئة ما جاء به الله عز وجل في القرآن وما قاله رسول الله ﷺ وما أجمع عليه
أهل الإسلام وما أطبق عليه أهل الأرض قاطبة من أن الاسم هو الكلمة
المجموعة من الحروف المقطعة وتصويب الباقلاني وابن فورك في أن ذلك ليس هو
الاسم وإنما هو التسمية والحمد لله الذى لم يجعلنا من أهل هذه الصنعة
المرذولة ولا من هذه العصابة المخذولة واحتجوا أيضا بقول رسول الله ﷺ إذا
أرسلت كلبك فذكرت اسم الله فكل فصح أن اللفظ المذكور هو اسم الله تعالى
وقول رسول الله ﷺ أن له أسماء وهي احمد ومحمد والعاقب والحاشر والماحي
فيالله وياللمسلمين أيجوز أن يظن ذو مسكة عقل أن رسول الله ﷺ خمس ذوات
تبارك الذي يخلق ما لا نعلم وذكروا قول رسول الله ﷺ تسموا بأسمي ولا تكنوا
بكنيتى فصح أن الاسم هو الميم والحاء والميم والدال بيقين لا شك فيه
واحتجوا بقول عائشة رضى الله عنها بحضرة رسول الله ﷺ وقد قال لها عليه
السلام إذا كنت راضية عني قلت لا ورب محمد وإذا كنت ساخطة قلت لا ورب
إبراهيم قالت أجل والله يارسول الله ما أهجر إلا اسمك فلم ينكر رسول الله ﷺ
عليها ذلك القول فصح أن اسمه غيره بلا شك لأنها لم تهجر ذاته وإنما هجرت
اسمه واحتجوا أيضا بقول رسول الله ﷺ أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله
وعبد الرحمن وأصدق الأسماء همام والحارث وروى أكذبهما خالد ومالك وهذا كله
يبين أن الاسم غير المسمى فقد يسمى عبد الله وعبد الرحمن من يبغضه الله عز
وجل وقد يسمى من يكون كذابا الحارث وهماماويسمى الصادق خالد ومالكا فهم
بخلاف أسمائهم واحتجوا أيضا بأن قالوا قد اجتمعت الأمم كلها على أنه إذا
سئل المرء ما اسمك قال فلان وإذا قيل له كيف سميت ابنك وعبدك قال سميته
فلانا فصح أن تسميته هي اختياره وإيقاعه ذلك الاسم على المسمى وأن الاسم
غير المسمى واحتجوا من طريق النظر بأن قالوا انتم تقولون أن اسم الله تعالى
هو الله نفسه ثم لا تبالون بأن تقولوا أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته
فعليم مشتق من علم وقدير مشتق من قدرة وحي من حياة فإذا اسم الله هو الله
واسم الله مشتق فالله تعالى على قولكم مشتق وهذا كفر بارد وكلام سخيف ولا
مخلص لهم منه فصحت البراهين المذكورة من القرآن والسنن والإجماع والعقل
واللغة والنحو على أن الاسم غير المسمى بلا شك ولقد أحسن أحمد بن جدار ما
شاء أن يحسن إذ يقول: هيهات يا أخت آل بما غلطت في الاسم والمسمى لو كان
هذا وقيل سم مات إذا من يقول سما قال أبو محمد: وأخبرني أبو عبد الله
السائح القطان أنه شاهد بعضهم قد كتب الله في سحاة وجعل يصلى إليها قال
فقلت له ما هذا قال معبود قال فنفخت فيها فطارت فقلت له قد طار معبودك قال
فضربني.
قال أبو محمد: وموهوا فقالوا فأسماء الله عز وجل إذا مخلوقة إذ هي كثيرة
وإذ هى غير الله تعالى قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق أن كنتم تعنون
الأصوات التي هي حروف الهجاء والمداد المخطوط به في القراطيس فما يختلف
مسلمان في أن كل ذلك مخلوق وإن كنتم تريدون الإيهام والتمويه بإطلاق الخلق
على الله تعالى فمن أطلق ذلك فهو كافر بل أن أشار مشير إلى كتاب مكتوب فيه
الله أو بعض أسماء الله تعالى أو إلى كلامه إذ قال يا الله أو قال بعض
أسمائه عز وجل فقال هذا مخلوق أو هذا ليس ربكم أو تكفرون بهذا لما حل لمسلم
إلا أن يقول حاشا الله من أن يكون مخلوقا بل هو ربي وخالقي أؤمن به ولا
أكفر به ولو قال غير هذا لكان كافرا حلال الدم لأنه لا يمكن أن يسأل عن ذات
الباري تعالى ولا عن الذي هو ربنا عز وجل وخالقنا والذي هو المسمى بهذه
الأسماء ولا إلى الذي يخبر عنه ولا إلى الذي يذكر إلا بذكر اسمه ولا بد
فلما كان الجواب في هذه المسألة يموه أهل الجهل بإيصال ما لا يجوز إلى ذات
الله تعالى لم يجز أن يطلق الجواب في ذلك البتة إلا بتقسيم كما ذكرنا وكذلك
لو كتب إنسان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أو نطلق بذلك ثم قال
لنا هذا رسول الله ﷺ أم ليس رسول الله وتؤمنون بهذا أن تكفرون به لكان من
قال ليس رسول الله ﷺ وأنا أكفر به كافرا حلال الدم بإجماع أهل الاسلام ولكن
نقول بل هو رسول الله ﷺ ونحن نؤمن به ولا يختلف اثنان في الصوت المسموع
والخط المكتوب ليس هو الله ولا رسول الله وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا
أن أحمد بن حنبل وأبا زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبا حاتم محمد بن
إدريس النظلي الراويين رحمهما الله تعالى إن الاسم هو المسمي قلنا لهم
هؤلاء رضي الله عنهم وإن كانوا من أهل السنة ومن أئمتنا فليسوا معصومين من
الخطأ ولا أمرنا الله عز وجل بتقليدهم واتباعهم في كل ما قال وه وهؤلاء
رحمهم الله أراهم اختيار هذا القول قولهم الصحيح أن القرآن هو المسموع من
القرآن المخطوط في المصاحف نفسه وهذا قول صحيح ولا يوجب أن يكون الاسم هو
المسمى على ما قد بينا في هذا الباب وفي باب الكلام في القرآن والحمد لله
رب العالمين وإنما العجب كله ممن قلب الحق وفارق هؤلاء المذكورين حيث
أصابوا وحيث لا يحل خلافهم وتعلق بهم حيث وهموا من هؤلاء المنتمين إلى
الأشعرية القائلين بأن القرآن لم ينزل قط إلينا ولا سمعناه قط ولا نزل به
جبريل على قلب رسول الله ﷺ وإن الذي في المصاحف هو شيء آخر غير القرآن ثم
أتبعوا هذه الفكرة الصلعاء بأن قالوا إن اسم الله هو الله وأنه ليس إلا اسم
واحد وكذبوا الله تعالى ورسوله في أن لله أسماء كثيرة تسعة وتسعين ونعوذ
بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: ولو أن إنساناً يشير إلى كتاب مكتوب فيه الله فقال هذا ليس
ربي وأنا كافر بهذا لكان كافراً ولو قال هذا المداد ليس ربي وأنا كافر
بربوبية هذا الصوت لكان صادقاً وهذا لا ينكر وإنما نقف حيث وقفنا ولو أن
إنساناً قال محمد رسول الله رحمه الله لم يبعد من الاستخفاف فلوا قال اللهم
أرحك محمد وآل محمد لكان محسناً ولو أن إنساناً يذكر من أبويه العضو
المستور باسمه لكان عاقاً أتى كبيرة وإن كان صادقاً وبالله تعالى التوفيق.
والكلام في هل يعقل الفلك والنجوم أم لا
قال أبو محمد: زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع ولا تذوق ولا تشم وهذه دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مردود عند كل طائفة بأول العقل إذ ليست أصح من دعوى أخرى تضادها وتعارضها وبرهان صحة الحكم بأن الفلك والنجوم لا تعقل أصلاً هو أن حركتها أبداً على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له فقالوا الدليل على هذا أن الأفضل لا يختار إلا الأفضل للعمل فقلنا لهم ومن أين لكم بأن الحركة أفضل من السكون الاختياري لأننا وجدنا الحركة حركتين اختيارية واضطرارية ووجدنا السكون سكونين اختيارياً واضطرارياً فلا دليل على أن الحركة الاختيارية أفضل من السكون الاختياري ثم من لكم بأن الحركة الدورية أفضل من سائر الحركات يميناً أو يساراً أو أمام أو وراء ثم من لكم بأن الحركة من شرق إلى غرب كما يتحرك الفلك الأكبر أفضل من الحركة من غرب إلى شرق كما تتحرك سائر الأفلاك وجميع الكواكب فلاح أن قولهم مخرقة فاسدة ودعوى كاذبة مموهة وقال بعضهم لما كنا نحن نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل والحياة منا فقلنا هاتان دعوتان مجموعتان في نسق أحدهما القول بأنها تدبرنا فهي دعوى كاذبة بلا برهان على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى والثاني الحكم بأن من تدبرنا أحق بالعقل والحياة منا فقد وجدنا التدبير يكون طبيعياً ويكون اختيارياً فلو صح أنها تدبرنا لكان تدبيراً طبيعياً كتدبير الغذاء لنا وكتدبير الهواء والماء لنا وكل ذلك ليس حياً ولا عاقلاً بالمشاهدة وقد أبطلنا الآن أن يكون تدبير الكواكب لنا اختيارياً بما ذكرنا من جريها على حركة واحدة ورتبة واحدة لا تنتقل عنها أصلاً وأما القول بقضايا النجوم فإنا نقول في ذلك لائحاً ظاهراً إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: أما معرفة قطعها في أفلاكها وآناء ذلك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها واختلاف مراكز أفلاكها فعلم حسن صحيح رفيع يشرف به الناظر فيه على عظيم قدرة الله عز وجل وعلى يقين تأثيره وصنعته واختراعه تعالى للعالم بما فيه وفيه الذي يضطر كل ذلك إلى الإقرار بالخالق ولا يستغني عن ذلك في معرفة القبلة وأوقات الصلاة وينتج من هذا معرفة رؤية الأهلة لفرض الصوم والفطر ومعرفة الكسوفين برهان ذلك قول الله تعالى " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق " وقال تعالى " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " وقال تعالى " والسماء ذات البروج " وقال تعالى " لتعلموا عدد السنين والحساب " وهذا نفس ما قلنا وبالله تعالى التوفيق.
وأما القضاء بها فالقطع به خطأ لما نذكره إن شاء الله تعالى وأهل القضاء ينقسمون قسمين أحدهما القائلون بأنها والفلك عاقلة مميزة فاعلة مدبرة دون الله تعالى أو معه وأنها لم تزل فهذه الطائفة كفار مشركون حلال دماؤهم وأموالهم بإجماع الأمة وهؤلاء عني رسول الله ﷺ إذ يقول أن الله تعالى قال أصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكواكب وفسره رسول الله ﷺ أنه القائل مطرنا بنوء كذا وكذا وأما من قال بأنها مخلوقة وأنها غير عاقلة لكن الله عز وجل خلقها وجعلها دلائل على الكوائن.
فهذا ليس كافراً ولا مبتدعاً وهذا هو الذي قلنا فيه أنه خطأ لأن قائل هذا إنما يحيل على التجارب فما كان من تلك التجارب ظاهراً إلى الحس كالمد والجزر الحادثين عند طلوع القمر واستوائه وأفوله وامتلائه ونقصانه وكتأثير القمر في قتل الدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه وكتأثيره في القرع والقثاء المسموع لنموها مع القمر صوت قوي وكتأثيره في الدماغ والدم والشعر وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبات وكتأثيرها في أعين السنانير غدوة ونصف النهار وبالعشي ونصف الليل وسائر ما يوجد حساً فهو حق لا يدقعه ذو حس سليم وكل ذلك خلق الله عز وجل فهو خلق القوي وما يتولد عنها ويوجد بها كما قال تعالى " وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ " وأما ما كان من تلك التجارب خارجاً عما ذكرنا فهو دعاوي لا تصح لوجوه أحدها أن التجربة لا تصح إلا بتكرر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات وإن ادخل يده في النار احترق ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات آلاف من السنين لا سبيل إلى أن يصح منها تجربة ولا إلى أن تبيقي دورة تراعي تكرار تلك الأدوار وهذا برهان مقطوع به على بطلان دعواهم في صحة القضايا بالنجوم وبرهان آخر وهو ان شروطهم في القضاء لا تمكنهم الإحاطة بها أصلاً من معرفة مواقع السهام ومطارح الشعاعات وتحقيق الدرج النيرة والغيمة والمظلمة والآثار والكواكب البنيانية وسائر شروطهم التي يقرون أنه لا يصح القضاء إلا بتحقيقها وبرهان ثالث وهو أنه ما دام يشتغل المعدل في تعديل كوكب زل عنه سائر الكواكب ولو دقيقة ولا بد وفي هذا فساد القضاء بإقرارهم وبرهان رابع وهو ظهور اليقين بالباطل في دعواهم إذ جعلوا طبع زحل البرد واليبس وطبع المريخ الحر واليبس وطبع القمر البرد والرطوبة وهذه الصفات إنما هي للعناصر التي دون فلك القمر وليس شيء منها في الأجرام العلوية لأنها خارجة عن محل حوامل هذه الصفات والأعراض لا تتعدى حواملها والحوامل لا تتعدى مواضعها التي رتبها الله فيها وبرهان خامس وهو ظهور كذبهم في قسمتهم الأرض على البروج والدراري ولسنا نقول في المدن التي يمكنهم فيها دعوى أن بناءها كان في طالع كذا ونصه كذا لكن في الأ قال يم والقطع من الأرض التي لم يتقدم كون بعضها كون بعض كذبهم فيما عليه بنوا قضاياهم في النجوم وكذلك قسمتهم أعضاء الجسم والفلزات على الدراري أيضاً وبرهان سادس أننا نجد نوعاً وأنواعاً من أنواع الحيوان قد فشا فيها الذبح فلا تكاد يموت شيء منها إلا مذبوحاً كالدجاج والحمام والضان والمعز والبقر التي لا تموت منها حتف أنفه إلا في غاية الشذوذ ونوعاً وأنواعاً لا تكاد تموت إلا حتف أنوفها كالحمير والبغال وكثير من السباع وبالضرورة يدري كل أحد أنها قد تستوي أوقات ولادتها فبطل قضاؤها بما يوجب الموت الطبيعي وبما يوجب الكرهى لاستواء جميعها في الولادات واختلافها في أنواع المنايا وبرهان سابع وهو أننا نرى الخصافا شيئاً في سكان الاقليم الأول وسكان الاقليم السابع ولا سبيل إلى وجوده البتة في سكان سائر الأ قال يم ولا شك ولا مرية في استوائهم في أوقات الولادة فبطل يقيناً قضاؤهم بما يوجب الخصا وبما لا يوجبه بما ذكرنا من تساويهم في أوقات التكون والولادة واختلافهم في الحكم ويكفي من هذا أن كلامهم في ذلك دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مع اختلافهم فيما يوجبه الحكم عندهم والحق لا يكون في قولين مختلفين وأيضاً فإن المشاهدة توجب أننا قادرون على مخالفة أحكامهم متى أخبرونا بها فلو كانت حقاً وحتماً وما قدر أحد على خلافها وإذا أمكن خلافها فليست حقاً فصح أنها تخرص كالطرق بالحصا والضرب بالحب والنظر في الكتف والزجر والطيرة وسائر ما يدعي أهله فيه تقديم المعرفة بلا شك وما يخص ما شاهدناه وما صح عندنا مما حققه حذاقهم من التعديل في الموالد والمناجات وتحاول السنين ثم قضوا فيه فاخطؤا وما تقع أصابتهم من خطئهم إلا في جزء يسير فصح أنه تحرص لا حقيقة فيه لا سيما دعواهم في إخراج الضمير فهو كله كذب لمن تأمله وبالله تعالى التوفيق وكذلك قولهم في القرانات أيضاً ولو أمكن تحقيق تلك التجارب في كل ما ذكرنا لصدقناها وما يبدوا منها ولم يكن ذلك علم غيب لأن كل ما قام عليه دليل من خط أو كتف أو زجر أو تطير فليس غيباً لو صح وجه كل ذلك وإنما الغيب وعلمه هو أن يخبر المرء بكائنة من الكائنات دون صناعة أصلاً من شيء مما ذكرنا ولا من غيره فيصيب الجزئي والكلي وهذا لا يكون إلا لنبي وهو معجزة حينئذٍ وأما الكهانة فقد بطلت بمجيء النبي ﷺ فكان هذا من أعلامه وآياته وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في خلق الله تعالى للشيء أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله من دون الله تعالى هو المفعول أم
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق واحتج هؤلاء بقول الله عز وجل " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم " قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذه الآية لأن الإشهاد هاهنا هو الإحضار بالمعرفة وهذا حق لأن الله تعالى لم يحضرنا عارفين ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء أنفسنا ووجدنا من قال أن خلق الشيء هو الشيء نفسه يحتج بقول الله تعالى هذا خلق الله وهذه إشارة إلى جميع المخلوقات فقد سمي الله تعالى جميع المخلوقات كلها خلقاً له وهذا برهان لا يعارض.
قال أبو محمد: ثم نسأل من قال أن خلق الشيء هو غير الشيء فنقول له أخبرنا عن خلق الله تعالى لما خلق أمخلوق هو أيضاً أم غير مخلوق فلا بد من أحد الأمرين فإن قالوا هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئاً موجوداً غير مخلوق وهذا مضاهاة لقول الدهرية والبرهان قد قام بخلاف هذا وقال تعالى " خلق كل شيء فقدره تقديراً " وإن قالوا بل خلقه تعالى لما خلق قلنا فخلقه تعالى لذلك الخلق أبخلق أم بغير خلق فإن قالوا بغير خلق قيل لهم من أين قلتم أن خلقه للأشياء بمخلق هو غير المخلوق وقلتم في خلقه لذلك الخلق أنه بغير خلق وهذا تخليط وإن قالوا بل خلقه بخلق سألناهم الخلق هو أم بخلق هو غيره وهكذا أبداً فإن وقفوا في شيء من ذلك فقالوا خلقه هو هو سألناهم عن الفرق بين ما قالوا أن خلقه هو غيره وبين ما قالوا أن خلقه هو هو وإن تماد وأخرجوا إلى وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وقد قطع بهذا معمر بن عمرو العطار أحد رؤساء المعتزلة وسنذكر كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى متصلاً بهذا الباب وبالله تعالى نتأيد وأيضاً فإن الجميع مطبقون على أن الله عز وجل خلق ما خلق بلا معاياة فإذ لا شك في ذلك فقد صح يقيناً أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين ما خلق ولا ثالث في الوجود غير الخالق والمخلوق وخلق الله تعالى ما خلق حق موجود وهو بلا شك مخلوق وهو بلا شك ليس هو الخالق فهو المخلوق نفسه بيقين لا شك فيه إذ لا ثالث هاهنا أصلاً وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وكل من دون الله تعالى فعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكوناً أو تأثيراً أو معرفة أو فكرة أو إرادة ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك أو مفعول له كالمطاع والمخدوم أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحلوب فهذه أوجه المفعولات.
قال أبو محمد: وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق بل هي
غير المفعول فيه أوله أو به أو من أجله وذلك كالأحياء فهو غير المحيا بلا
شك وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا
وكالا ماتة فهي غير الممات ولو كان غير هذا وكان الأحياء هو المحيا
والإماتة هي الممات وبيقين ندري أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون
الأحياء هو الإماتة وهذا محال وكالإبقاء فهو غير المبقي للبرهان الذي ذكرنا
وبيقين ندري أن الشيء غير أعراضه التي هي قائمة به وقتاً وفانية عنه تارة
وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في البقاء والفناء والمعاني التي يدعيها معمر والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئاً ومسئلة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني.
قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية بنقيض الأولى والأولى بنقيض الثانية لأنه إذا قال ليست هي فقد أوجب أنها غيره وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو وهذا تناقض ظاهر وأيضاً فإنه لا فرق بين قول القائلين ليس هو هو ولا غيره وبين قوله هو هو وهو غيره والمعنى في تلك القضيتين سواء وأيضاً فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره والفناء ليس هو الفاني ولا هو غيره فالباقي هو الفاني نفسه والباقي ليس هو الباقي ولا غيره وهذا مزيد من الجنون ومن التناقض وذهب معمر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني.
قال أبو محمد: وهذا تخبيط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليل أصلاً وما كان هكذا فهو باطل والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتاً قائماً مدة زمان ما فإذ هو قائم كذلك فهو صفة موجودة في الباقي محمولة فيه قائمة به موجودة بوجوده فانية بفنائه وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئاً أصلاً والفناء المذكور ليس موجوداً البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالإخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضاً وما أشبه ذلك لو شاء الله عز وجل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده فالفناء عدم كما قلنا.
الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لا فقال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئاً وبه يقول هشام بن عمرو الغوطي أحد شيوخ المعتزلة وقال سائر المعتزلة المعدوم شيء وقال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة أن المعدوم جسم في حال عدمه إلا انه ليس متحركاً ولا ساكناً ولا مخلوقاً ولا محدثاً في حال عدمه.
قال أبو محمد: واحتج من قال بأن المعدوم شيء بان قالوا قال عز وجل إن زلزلة
الساعة شيء عظيم فقالوا فقد أخبر الله عز وجل بأنها شيء وهي معدومة ومن
الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ويوصف ويتمنى ومن المحال أن يكون
ما هذه صفته ليس شيئاً.
قال أبو محمد: أما قول الله عز وجل " إن زلزلة الساعة شيء عظيم " فإن هذه
القصة موصولة بقوله تعالى " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " فإنما
تم الكلام عند قوله يوم ترونها فصح أن زلزلة الساعة يوم ترونها شيء عظيم
وهذا هو قولنا ولم يقل تعالى قط أنها الآن شيء عظيم ثم أخبر تعالى بما يكون
يومئذ من هول المرضعات ووضع الأحمال وكون الناس سكارى من غير خمر فبطل
تعلقهم بالآية وما نعلم أنهم شغبوا بشيء غيرها وأما قولهم أن المعدوم يخبر
عنه ويوصف ويتمنى ويسمى فجهل شديد وظن فاسد وذلك أن قولنا في شيء يذكر أنه
معدوم ويخبر عنه أنه معدوم ويتمنى به إنما هو أن يذكر اسم ما فذلك الاسم
موجود بلا شك يعرف ذلك بالحس كقولنا العنقاء وابن آوى وحبين وعرس ونبوة
مسيلمة وما أشبه ذلك ثم كل اسم يتعلق به ويوجد ملفوظاً أو مكتوباً فإنه
ضرورة لا بد له من أحد وجهين أما أن يكون له مسمى وإما أن يكون ليس له مسمى
فإن كان له مسمى فهو موجود وهو شيء حينئذ وإن كان ليس له مسمى فأخبارنا
بالعدم وتمنينا للمريض بالصحة إنما هو إخبار عن ذلك الاسم الموجود أنه ليس
له مسمى ولا تحته شيء وتمن منا لأن يكون تحته مسمى فهكذا هو المر لا كما
ظنه أهل الجهل فصح أن المعدوم لا يخبر عنه ولا يتمنى ونسألهم عمن قال ليت
لي ثوباً أحمر وغلاماً أسود أخبرونا هل الثوب المتنى به عندكم أحمر أم لا
فإن أثبتوا معنى وهو ثوباً أحمر أثبتوا عرضاً محمولاً فيه وهو الحمرة فوجب
أن المعدوم يحمل الأعراض وإن قالوا لم يتمن شيئاً أصلاً صدقوا وصح أن
المعدوم لا يتمنى لأنه ليس شيئاً ولا فرق بين قول القائل تمنيت لا شيء وبين
قوله لم أتمن شيأ بل هما متلايمان بمعنى واحد وهذا أيضاً يخرج على وجه آخر
وهو أنه لا يتمنى إلا شيأ موجود في العالم كثوب موجود او غلام موجود واما
من اخرج لفظة التمني لما ليس في العالم فلم يتمن شيأ وأما قولهم يوصف فطريق
عجب جداً لأن معنى قول القائل يوصف إخبار بأن له صفة محمولة فيه موجودة به
فليت شعري كيف يحمل المعدوم الصفات من الحمرة والخضرة والقوة والطول
والعرض إن هذا لعجيب جداً فظهر فساد ما موهوا به والحمد قال أبو محمد رضي
الله عنه: وإذ قد عرا قولهم عن الدليل فقد صح أنه دعوى كاذبة ثم نقول
وبالله التوفيق من البرهان على أن المعدوم اسم لا يقع على شيء أصلاً قول
الله عز وجل وقد خلقتك من قبل ولم تك شيأ وقوله تعالى هل أتي على الإنسان
حين من الدهر لم يكن شيأ مذكوراً وقوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا وقال عز
وجل إنا كل شيء خلقناه بقدر فيلزمهم ولا بد إن كان المعدوم شيأ أن يكون
مخلوقاً بعد وهم لا يختلفون في أن المخلوق موجود وقد وجد وقتاً من الدهر
فالمعدوم على هذا موجود وقد كان موجوداً وهذا خلاف قولهم وهذا غاية البيان
في أن المعدوم ليس شيئاً.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ونسألهم ما معنى قولنا شيء فلا يجدون بداً من
أن يقولوا أنه الموجود وأن يقولوا هو كل ما يخبر عنه فإن قالوا هو الموجود
صاروا إلى الحق وإن قالوا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم إن المشركين يخبرون
عن شريك الله عز وجل قال تعالى " أين شركائي ".
قال أبو محمد: وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة واسم لا مسمى تحته فإن
قالوا إن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا وأيضاً فإنه قد اتفقت
جميع الأمم لا نحاشي أن المعدوم ليش شيئاً أو لا شيء أو ما يعبر به في كل
لغة عن شيء ومن لا شيء إلا أن المعنى واحد فلو كان المعدوم شيئاً لكان ما
أجمعوا عليه بلا شيء وليس شيئاً ولم يكن شيئاً باطلاً وهذا رد على جميع أهل
الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء
فبضرورة العقل أن اللاشيء هو المعدوم ثم نسألهم أتقولون أن المعدوم عظيم أو
صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه فإن أبوا من
هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم أنه شيء وبين قولهم أنه حسن او
قبيح أو صغير أو كبير وكيفقالوا أنه شيء ثم قالوا أنه ليس حسناً ولا قبيحاً
ولا صغيراً وكبيراً فإن قالوا نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات
وهذا تخليط ناهيك به وسئلوا فيماذا يحمل الصفات أفي ذاته أو فيما ذا فإن
قالوا في ذاته أوجبوا أنه له ذاتاً وهذه صفة الموجود ضرورة وإن قالوا بل
يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضاً عجباً زائداً لا خفاء به.
قال أبو محمد: ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم فإن قولهم بلا شك أنه معدوم منه.
فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم حسن هو أم قبيح.
فإن قالوا لا حسن ولا قبيح قلنا لهم أيكون يعقل إيمان ليس حسناً هذا عظيم جداً.
وإن قالوا بل هو حسن أوجبوا أنه حاصل للحسن وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم السلام أقبيح هو أم لا. فإن قالوا لا أوجبوا كفراً ليس قبيحا. وإن قالوا بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه أصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق.
فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجباً أن يكون ولد لا صغير ولا كبير ولا حي ولا ميت وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها. فإن قالوا لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها. وإن قالوا بل لها عدد كان ذلك عجباً جداً أو محالاً لا خفاء به وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم.
ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم فإن قالوا هي في العالم ومن العالم سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكاناً سخفوا ما شاؤا وإن قالوا لا مكان لها قيل لهم وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل.
قال أبو محمد: ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية
ولا مبدأ فإنها لم تزل وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى
كثرة لم تزل مع الله تعالى ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس.
قال أبو محمد: وقد ادعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا
سيما ممن أقر بأن المعدوم لا شيء وادعى مع ذلك أنه يعلم فألزمناهم على ذلك
أنهم يعلمون لا شيء وأن الله تعالى يعلم لا شيء فجسر بعضهم على ذلك فقلنا
لهم إن قولك علمت لا شيء وعلم الله تعالى لا شيء ملائم لقولك لم أعلم شيئاً
ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئاً لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما
واحد وإن اختلفت العبارتان وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن
ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى الأشياء قبل كونها أم لا قلنا لم
يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبداً إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه
ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيها إذا خلقه وأنه سيكون شيئاً إذا كونه
ولم يزل عز وجل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئاً حتى يخلقه ولم يزل
تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنه ستكون الأشياء أشياء إذا خلقها لأنه تعالى
إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على
خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها وليس هذا علماً بل هو ظن كاذب وجهل
وبرهان هذا قول الله عز وجل " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم " ولو في
لغة العرب التي خاطبنا الله تعالى بها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع
غيره فصح أنه تعالى لم يسمعهم لأنه لم يعلم فيهم خيراً أو لا خير فيهم فصح
أن المعدوم لا يعلم أصلاً ولو علم لكان موجوداً وإنما يعلم الله تعالى أن
لفظة المعدوم لا مسمى لها ولا شيء تحتها ويعلم عز وجل الآن أن الساعة غير
قائمة وهو الآن تعالى لا يعلمها قائمة بل يعلم أنه سيقيمها فتقوم فتكون
قيامة وساعة ويوم جزاء ويوم بعث وشيئاً عظيماً حين يخلق كل ذلك لا قبل أن
يخلقه فأما علمه تعالى بأنه سيقيمها فتقوم فهو موجود حق فهذا معنى إطلاق
العلم على ما لم يكن بعد من المعدومات كما أننا لا نعلم الآن الشمس طالعة
طلوعها في غد بل نعلم أنها ستطلع غداً وكذلك لا نعلم موت الأحياء الآن بل
نعلم أن الله تعالى سيخلق موتهم فنعلمه موتاً لهم إذا خلقه لا قبل ذلك
وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله
الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فهذا نص جلى على أن المعدوم لا يعلم لأن
الله تعالى أخبر أنه لا يدخل الجنة من لا يعمله الله تعالى مجاهداً ولا
صابراً فصح أن من لم يجاهد ولا صبر فلم يعلمه الله تعالى قط مجاهداً ولا
صابراً ولا علم له جهاداً ولا صبراً وإنما علمه غير مجاهد وغير صابر ولم
يزل تعالى يعلم أن من كان منهم سيجاهد وسيصبر فإنه لم يزل يعلم أن سيجاهد
وسيصبر فإذا جاهد وصبر علمه حينئذ صابراً مجاهداً والعلم لا يستحيل لأنه
ليس شيئاً غير الباري تعالى وإنما استحال المعلوم فقط.
ثم نسألهم هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك وهل
يعلم الله تعالى أولاد العقيم وإيمان الكافر وكفر المؤمن وكذب الصادق وصدق
الكاذب أم لا يعلم شيئاً من ذلك.
فإن قالوا إن الله تعالى يعلم كل ذلك كانوا قد وصفوا الله تعالى باجهل وأنه يعلم الأشياء بخلاف ما هي عليه.
وإن قالوا أنه تعالى لا يعلم للعقيم أولاداً وإنما يعلمه لا ولد له ولا
يعلم لحية الكلام في المعاني على معمر قال أبو محمد: وأما معمر ومن اتبعه
فقالوا أنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا أن معنى الحدث في المتحرك به فارق
الساكن في صفته وإن معنى حدث في الساكن به أيضاً فارق المتحرك في صفته
وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون وإن في السكون معنى به فارق
الحركة وكذلك علمنا أن في ذلك المعنى الذي به خالفت الحركة السكون معنى به
فارق المعنى الذي به فارقه السكون وهكذا أبداً أوجبوا أن في كل شيء في هذا
العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق كل معنى منها كل ما عداه في
العالم وكذلك أيضاً في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة وأوجبوا
بهذا وجود أشياء في زمان محدود في العالم لا نهاية لعددها.
قال أبو محمد: هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصلوها ومدوها في الكفر
والكافر والإيمان والمؤمن وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه
ولا زيادة فيه أصلاً.
قال أبو محمد: وهذا ليس شيئاً لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق العالم
كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين
القسمين هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس فالجواهر مغايرة بعضها لبعض
بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيرية فيها وتختلف أيضاً بجنسها وهي
أيضاً مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حامل من الجواهر وأما
الأعراض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرية فيها وكذلك هذه أيضاً بعضها
مغاير لبعض بذواتها وبعضها مفارق لبعض بذواتها وإن كان بعض الأعراض أيضاً
قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة وحمرة كذرة وعمل سيئ وعمل صالح وقوة
شديدة وقوة دونها في الشدة ومثل هذا كثير إلا أن كل هذا يقف في عدد متناه
لا يزيد وهذا أمر يعلم بالحس والعقل فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا
بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية
والغيرية والحركة إلى الشرق تفارق الحركة إلى الغرب بكون هذه إلى الشرق
وبكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيرية فقط وهكذا في كل شيء فكل شيئين وقعا
تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيريتهما فإن كانا وقعا تحت
نوعين فإنهما يختلفان بالغيرية في الشخص وبالغيرة في النوع أيضاً والغيرية
أيضاً لها نوع جامع لجميع أشخاصها إلا أن كل ذلك واقف عند حد من العدد لا
يزيد ولا بد ثم نسألهم خبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما
أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا
مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها وإن قالوا إلا
قلة ولا كثرة هاهنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضاً لأقوالهم لأنهم إذا
أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبداً فوجبت الكثرة
والقلة ضرورة لا محيد عنها.
قال أبو محمد: فلم يكن لهم جواب أصلاً إلا أن بعضهم قال أخبرونا أليس الله تعالى قادراً على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها.
قال أبو محمد: فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال نعم وأما من عجز ربه فأجابوا بلا فسقط هذا السؤال عنهم وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمر.
قال أبو محمد: فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ولا يقع العدد إلا على موجود معدود والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئاً ولا له عدد ولا هو معدود ولا نهاية لقدرة الله تعالى وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا يقال فيه أن له نهاية ولا أنه لا نهاية له وأما كل ما خلق الله تعالى فله نهاية بعد وكذا كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك وأما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون أنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قدر ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل أن ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده وهذا لا يصح بل الحق في هذا أن نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلق ما لا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير ذي نهاية وكان غير ذي نهاية لكان قادراً على كل ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد لا نهاية لها إذ ليس هاهنا عقل يوجب ذلك ولا خبر يوجب ذلك وإنما هو قياس منكم إذ قلتم لما كان قادراً على أن يخلق ما لا نهاية له قلنا أنه قد خلق ما لا نهاية له فهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان القياس حقاً لكان هذا منه باطلاً لأنه بزعمكم قياس موجود على معدوم وقياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه وهذا في غاية الفساد ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول أن في بلد كذا قوماً يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصورون من ألسنتهم فإذا كذب في ذلك وسئل برهاناً على دعواه قال أتقرون أن الله قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم قال فهذا دليل على صحة دعواي بل أنتم أسوأ حالاً لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون فأنتم أتخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد.
قال أبو محمد: فبطل هذا القول الفاسد والحمد لله رب العالمين وكان يكفي من
بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال
لا يتوهم ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الأحوال مع الأشعرية ومن وافقهم
قال أبو محمد وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا أن هاهنا أحوالاً ليست حقاً ولا باطلاً ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء وقالوا من هذا علم العالم بأن له علماً ووجوده لوجوده وقالوا فإن قلتم أن لكم علماً بأن لكم علماً بالباري تعالى وبما تعلمونه وأن لكم وجوداً لوجودكم ما تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علماً وهل لكم وجود لوجودكم وجودكم ما تجدونه فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبداً إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمر والدهرية. وإن منعتم من ذلك سئلتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك وكذلك قالوا في قدم القديم وحدث المحدث وبقاء الباقي وفناء الفاني وظهور الظاهر وخفاء الخافي وقصد القاصد ونية الناوي وزمان الزمان وما أشبه ذلك.
و قالوا لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا فهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال وهكذا قالوا في قدم القديم وقد قدمه وقدم قدم قدمه إلى ما لا نهاية له وفي حدوث المحدث وحدث حدثه وحدث حدث حدثه إلى ما لا نهاية له وهكذا قالوا في زمان الزمان وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية وفي فناء الفاني وفناء فنائه وفناء فناء فنائه إلى ما لا نهاية له وكذلك ظهور الظاهر وظهور ظهوره وظهور ظهور ظهوره إلى ما لا نهاية له وكذلك القصد والقصد إلى القصد والقصد إلى القصد إلى القصد وهكذا إلا ما لا نهاية له وكذلك النية والنية للنية والنية للنية للنية إلى ما لا نهاية له وكذلك تحقيق الحق وتحقيق تحقيق الحق إلى ما لا نهاية له.
قال أبو محمد: أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدقق فيها فهي أضر عليه لأنها تخرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
قال أبو محمد: وللكلام في هذا أبين من أن يشكل على عامي فكيف على فهم فكيف على عالم والحمد لله ونحن نتكلم على هذا إن شاء الله عز وجل كلاماً ظاهراً لائحاً لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد فنقول وبالله تعالى التوفيق.
أما العدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمان وشيخ أقدم من شيخ أي أنه متقدم بزمانه عليه والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قدم قديم الأزماني هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلاً فالقدم هو التقدم والتقدم متقدم بنفسه على غيره فقط لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القديم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليل وما كان هكذا فهو باطل وأما وجود الموجود فبضرورة الحس أن الموجود حق وأنه يقتضي واجداً وأن الواجد يقتضي وجوداً لما وجد هو فعل الواجد وصفته فهو حق لما ذكرنا ووجود الواجد يوجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما الباري عز وجل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ولا بعلم هو غيره فقط وكذلك العالم منا يقتضي علماً ولا بد هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضاً بيقين ويزيد ويذهب ويثبت أطواراً هذا ما لا شك فيه والعالم منا يعلم أنه يحمل علماً بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه لأن العالم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وكذلك الباقي مثاله بلا شك والبقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة وهذا معنى صحيح لا يجوز أن ينكره عاقل فإما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجود نص ولا قام به برهان وما كان هكذا فهو باطل ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالبقاء ولا أنه باق كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ولا بالدوام ولا بأنه دائم ولا بالثبات ولا بأنه ثابت ولا بطول العمر ولا بطول المدة لأن الله عز وجل لم يسم نفسه بشيء من ذلك لا في القرآن ولا على لسان رسول الله ﷺ ولا قاله قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمي باسم ما فيوقف عنده ولأن كل ما ذكرنا أعراض فيما هو فيه والله تعالى لا يحمل الأعراض وأيضاً فإنه عز وجل لا في زمان ولا يمر عليه زمان ولا هو متحرك ولا ساكن لكن يقال لم يزل الله تعالى ولا يزال وأما الفناء فإنه مدة للعدم تعدها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن تكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بحصته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم والظهور صفة الظاهر وفعله تقول ظهر يظهر ظهوراً والظهور معلوم ظاهر بنفسه ولا يجوز أن يقال أن للظهور ظهوراً لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره والعدم ليس شيئاً كما قدمنا وأما القصد إلى الشي والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء والقول بهما واجب لأنهما موجودات بالضرورة يجدهما كل أحد من نفسه ويعلمهما من غيره علماً ضرورياً وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت به نص ولا أوجبهما دليل وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه أحوال أهي معان ومسميات
مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض أم ليست معاني أصلاً ولا لها مسميات ولا
هي مضبوطة ولا محدودة متميز بعضها من بعض فإن قالوا ليست معاني ولا محدودة
ولا مضبوطة ولا متيزاً بعضها من بعض ولا لتك الأسماء مسميات أصلاً قيل له
فهذا هو معنى العدم حقاً فلم قلتم أنها ليست معدومة ثم لم سميتموها أحوالاً
وهي معدومة ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني
أحوالاً ليست تسمية شريعة ولا لغوية ولا مصطلحاً عليها لبيان ما يقع عليه
فهي باطل محض بيقين فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة
بعضها من بعض قيل لهم هذه صفة الموجودة ولا بد فلم قلتم أنها ليست موجودة
وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ويقال لهم أيضاً هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير
معقولة فإن قالوا هي معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها
عقلت فهي موجودة ولا بد والعدم ليس معقولاً لكنه لا معنى لهذه اللفظة أصلاً
وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أيضاً هل الأحوال في اللغة وفي المعقول
إلا صفات لذي حال وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى
يقال هذا حال فلان اليوم وكيف كانت حالك بالأمس وكيف يكون الحال غداً فإذا
الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حق مخلوقة ولا بد فظهر فساد قولهم
وأنه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضي به عاقل ويقال لهم
أيضاً قبل كل شيء وبعده فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال ومن أين قلتم
لا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا حق ولا باطل ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة
ولا معدومة ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء أي دليل حداكم على هذا
الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أو قول متقدم أم لغة أم ضرورة عقل أم دليل
إقناعي أم قياس فهاتوه ولا سبيل إليه فلم يبق إلا الهذر والهوس وقلة
المبالاة بما يكتبه اللكان ويسأل عنه رب العالمين والتهاون باستخفاف أهل
العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ونعوذ بالله من الخذلان وما ينبغي لهم
بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين والجسمين
في مكان واحد وكون شيء قائماً قاعداً وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد
فإن قالوا هذا كفر قيل لهم بل الكفر ما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلها
والعجب كل العجب أنهم لا يجوزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم وقد
أتوا في هذا الفصل بعين المحال ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ولا قول السوفسطائية ولا قول النصارى ولا قول الغالية على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالاً أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق أو أنها حق عند من هي عنده حق وباطل عند من هي عند باطل وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه كل ذلك معاً في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم أو مجنون أو ماجن يريد أن يضحك من معه.
قال أبو محمد: ونحن نتكلف بيان هذا التخليط التي أتوا به وإن كان مكتفياً
بسماعه ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى
التوفيق أن قولهم لا هي حق ولا هي باطل فإن كل ذي حس سليم يدري أن كل ما لم
يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فهو حق هذا لا يعقل غيره فكيف وقد
قال الله تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " وقال تعالى " ليحق الحق
ويبطل الباطل " وقال تعالى " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون "
وقال تعالى " خلق كل شيء فقدره " وقال تعالى " وَنَادَى أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا
حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ "
وقال " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ".
قال أبو محمد: وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ولولا ذلك ما احتججنا عليهم فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل وليس إلا علم أو جهل وهو عدم العلم وليس إلا وجود أو عدم إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عز وجل في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلاً فهو حق وما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن معلوماً فهو مجهول وما لم يكن مجهولاً فهو معلوم وما لم يكن شيئاً فهو لا شيء وما لم يكن لا شيء فهو شيء وما لم يكن موجوداً فهو معدوم وما لم يكن معدوماً فهو موجوداً وما لم يكن مخلوقاً فهو غير مخلوق وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق هذا كله معلوم ضرورة ولا يعقل غيره فإذ هذا كذلك ولا فرق بين ما قال وه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معاً حق باطل معاً معلومة مجهولة معاً مخلوقة غير مخلوقة معاً شيء لا شيء معاً وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذ قالوا ليست حقاً فقد أوجبوا أنها باطل وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق وهكذا في سائر ما قال وه فأعجبوا لعقول وسع هذا فيها وسخموا به ورقهم وعجب آخر وهو قال أبو محمد: ولم يخلصوا من هذا من قول معمر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالاً وإعدامها جملة وما نعلم هوساً إلا وقد انتظمته هذه المقالة ونعوذ بالله من الخذلان.
مسألة أخرى
قال أبو محمد: قالت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلاً ولا شيء له نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا سبع ولا ثمن ولا تسع ولا عشر ولا جزء أصلاً واحتجوا في هذا بأن قالوا يلزم من قال أن الواحد عشر العشر وجزء من العشرة وبعض العشرة أن يقول ولا بد أن الواحد عشر من نفسه وجزء من نفسه وبعض نفسه وأنه جزء لغيره عشر لغيره لأن العشرة تسعة وواحد فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضاً للعشرة وجزأ للعشرة لكان عشراً لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان جزأ بعضاً لنفسه وللتسعة التي هي غيره.
قال أبو محمد: وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد وتكذيب
للقرآن وخلاف اللغة بل لجميع اللغات ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى "
وإذا خلا بعضهم إلى بعض " وقال تعالى " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
غرورا " وقال تعالى " فلأمه الثلث فلامه السدس فلها النصف ولهن الربع ولهن
الثمن " فقد كذبوا القرآن نصاً ثم هذا موجود في كل طبيعة في كل لغة ومحسوس
بالحواس ثم يقال لهم لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه
وبعض غيره وجزأ لنفسه وجزأ لغيره وعشر نفسه وعشر غيره واحتج في تصحيح ذلك
بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلاكما متكسع في ظلمة الخطأ ثم
نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة
للتفاهم وللتميز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسم للعشرة أفراد مجتمعات في
العدد كذلك لتسعة وواحد ولثمانية اثنين ولسبعة وثلاثة ولستة وأربعة وخمسة
وخمسة قال تعالى " ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة "
وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن
كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها وعشر لها وقسم منها لنسبة ما ولا يقال
هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ولا أنه بعض لغيره ولا عشر
لنفسه ولا عشر لغيره ومثل هذا البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد والبياض
معاً فالبياض بلا شك بعض البلق والسواد بعض البلق وليس البياض جزأ لنفسه
وللسواد ولا بعضاً لنفسه وللسواد وكل واحد منهما جزء للبلق وكذلك الإنسان
اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من
الإنسان ولا يحتمل أن يقال العين بعض نفسها وبعض الأذن واليد ولا أن يقال
الأذن جزء لنفسها وللعين والأنف وهكذا في سائر الأعضاء فعلى قول هؤلاء
النوكى يلزمهم أن لا تكون العين بعض الإنسان وأن يقولوا أن العين بعض نفسها
وبعض الأذن ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل لأن الجمل ليست
شيئاً البتة غير أبعاضها ومن أبطل الجمل فقد بطل الكل والجزء وأبطال العالم
بكل ما فيه وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة وما نعلم
في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان.
الكلام في خلق الله عز وجل للعالم في كل وقت وزيادته في كل دقيقة
قال أبو محمد: وذكر عن النظام أنه قال أن الله تعالى يخلق كل ما خلق في وقت واحد دون أن يعدمه وأنكر عليه القول بعض أهل الكلام.
قال أبو محمد: وقول النظام هاهنا صحيح لأننا إذا أثبتنا أن خلق الشيء هو الشيء نفسه فخلق الله تعالى قائم في كل موجود أبداً ما دام ذلك الموجود موجوداً وأيضاً فإنا نسألهم ما معنى قولكم خلق الله تعالى أمر كذا فجوابهم أن معنى خلقه تعالى أخرجه من العدم إلى الوجود فنقول لهم أليس معنى هذا القول منكم أنه أوجده ولم يكن موجود أفلا بد من قولهم نعم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق فالخلق هو الإيجاد عندكم بلا شك فأخبرونا أليس الله تعالى موجداً لكل موجود أبداً مدة وجوده فإن أنكروا ذلك أحالوا وأوجبوا أن الأشياء موجودة وليس الله تعالى موجداً لها الآن وهذا تناقض وإن قالوا نعم فإن الله تعالى موجد لكل موجود أبداً ما دام موجوداً قلنا لهم هذا هو الذي أنكرتم بعينه قد أقررتم به لأن الإيجاد هو الخلق نفسه والله تعالى موجد لكل ما يوجد في كل وقت أبداً وإن لم يفنه قبل ذلك والله تعالى خالق لكل مخلوق في كل وقت وإن لم يفنه قبل ذلك وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وصح البرهان بأن الله تعالى خلق التراب والماء الذي يتغذى آدم وبنوه بما استحال عنهما وصارت فيه دماء وأحاله الله تعالى منياً فثبت بهذا يقيناً أن جميع أجساد الحيوان والنوامى كلها متفرقة ثم جمعها الله تعالى فقام منها الحيوان والنوامى وقال عز وجل " ثم أنشأناه خلقاً آخر " وقال تعالى " خلقاً من بعد خلق " فصح أن في كل حين يحيل الله تعالى أحوال مخلوقاته فهو خلق جيد والله تعالى يخلق في كل حين جميع العالم مستأنفاً دون أن يفنيه وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الحركة والسكون
قال أبو محمد: ذهبت طائفة إلى أن لا حركة في العالم وأن كل ذلك سكون واحتجوا بأن قالوا وجدنا الشيء ساكناً في المكان الأول ساكناً في المكان الثاني وهكذا أبداً فعلمناه أن كل ذلك سكون وهذا قول منسوب إلى معمر بن عمرو العطار مولى بني سليم أحد رؤساء المعتزلة وذهبت طائفة إلى أنه لا سكون أصلاً وإنما هي حركة اعتماد وهذا قول ينسب إلى إبراهيم ابن سيار النظام واحتج غير النظام من أهل هذه المقالة بأن قالوا السكون إنما هو عدم الحركة والعدم ليس شيئاً وقال بعضهم هو ترك الحركة وترك الفعل ليس فعلاً ولا هو معنى وذهبت طائفة إلى إبطال الحركة والسكون معاً وقالوا إنما يوجد متحرك وساكن فقط وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وذهبت طائفة إلى أن الجسم في أول خلق الله تعالى ليس ساكناً ولا متحركاً وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون إلا أنها قالت أن الحركات أجسام وهو قول هشام بن الحكم شيخ الإمامية وجهم بن صفوان السمرقندي وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون وأن كل ذلك أعراض وهذا هو الحق فأما من قال بنفي الحركة وأن كل ذلك سكون فقولهم يبطل بأننا قد علمنا بأن السكون إنما هو إقامة في المكان وأن الحركة نقلة عن ذلك المكان وزوال عنه ولا شك في أن الزوال عن الشيء هو غير الإقامة فيه فإذا الأمر كذلك فواجب أن يكون لهذين المعنيين المتغايرين لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر كما هما متغايران فاتفق في اللغة أن يسمى أحدهما حركة ويسمى الآخر سكوناً وأما قولهم أن كل حركة فهي سكون في المكان الثاني فليس كذلك لأن السكون إقامة لا نقلة فيها فإذا وجدت نقلة متصلة لا إقامة فيها فهي غير الإقامة التي لا نقلة فيها ونوع آخر له أيضاً أشخاص غير أشخاص النوع الآخر وبيقين ندري أن الشيء المتحرك من مكان إلى مكان فإنه وإن جاوز كل مكان يمر عليه فإنه غير واقف ولا مقيم هذا ما لا شك فيه يعرف ذلك بضرورة الحس فصح أن الحركة معنى وأن السكون معنى آخر وأما من قال أن السكون حركة اعتماد فاحتجاج لا يعقل فلا وجه للاشتغال به وأما حجة من احتج بأن السكون عدم الحركة والعدم ليس شيئاً فليس كما قال لأنه عقب الحركة إقامة موجودة ظاهرة فهي وإن كان معها بوجودها عدمت الحركة فليست هي عدماً كما أن القيام معنى صحيح موجود وأن كان قد عدمت معه سائر الحركات والأعمال من القعود والاتكاء والاضطجاع ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل الحركة ليست معنى لأنها عدم السكون فهذا ما لا انفكاك عنه وكذلك من قال أيضاً أن المرض ليس معنى لأنه عدم الصحة والصحة ليست معنى لأنها عدم المرض ومثل هذا كثير جداً وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأما من قال أن الترك ليس معنى فخطأ لأن كل من دون الله تعالى فإنه إن ترك معنى ما وفعلاً ما فلا بد له ضرورة من فعل آخر ومعنى آخر هذا أمر يوجد بالمشاهدة والحس لا يمكن غير ذلك فصح أن ترك من دون الله تعالى لفعل ما هو أيضاً فعل صحيح بوجوده منه سمي تاركاً لما ترك وليس الله تعالى كذلك بل لم يزل غير فاعل ولم يكن بذلك فاعلاً للترك لأن ترك الإنسان للفعل كما بينا عرض موجود فيه وهو حامل له ولو كان لترك الله تعالى للفعل معنى لكان قائماً به تعالى معاذ الله من هذا من أن يكون عز وجل حاملاً لعرض فلو كان أيضاً قائماً بنفسه لكان جوهراً والترك ليس جوهراً ولو كان قائماً بغيره عز وجل لكان تعالى فاعلاً له غير تارك فصح الفرق وبالله تعالى التوفيق وأما من أبطل الحركة والسكون معاً فقول فاسد أيضاً لأنه أثبت المتحرك والساكن مع ذلك وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن من تحرك سكن فإن تلك العين المتحركة ثم الساكنة هي عين واحدة وذات واحدة لم تتبدل ذاتها وإنما تبدل عرضها المحمول فيها فبالضرورة ندري أنه حدث فيه أو له أو منه معنى من أجله استحق أن يسمى متحركاً وأنه حدث فيه أو له أو منه أيضاً معنى من أجله استحق أن يسمى ساكناً ولولا ذلك لم يكن بأن يسمى متحركاً أحق به منه بأن يسمى ساكناً هذا أمر محسوس مشاهد فذلك المعنى هو الحركة أو السكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب ونفى الحركة والسكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب والأكل والقيام وهذه سفسطة صحيحة وبالله تعالى التوفيق وأما من قال أن الجسم في أول خلق الله عز وجل ليس ساكناً ولا متحركاً فكلام فاسد أيضاً لأنه لا يتوهم ولا يعقل معنى ثالث ليس حركة ولا سكوناً هذا شيء لا يتشكل في النفس ولا يثبته عقل ولا سمع وأيضاً فلأنه قول لا دليل عليه فهو باطل ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان فإذ لا شك في ذلك فالجسم في أول حدوثه ساكن في المكان الذي خلقه الله تعالى فيه ولو طرفة عين ثم إما يتصل سكونه فيه فتطول إقامته فيه وإما أن ينتقل عنه فيكون متحركاً عنه فإن قال قائل بل هو متحرك لأنه خارج عن العدم إلى الوجود قيل له هذا منك تسمية فاسدة لأن الحركة في اللغة وهي التي يتكلم عليها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان والعدم ليس مكاناً ولم يكن المخلوق شيئاً قبل أن يخلقه الله تعالى فحال خلقه هي أول أحواله التي لم يكن هو قبلها فكيف أن يكون له حال قبلها فلم ينتقل أصلاً بل ابتداه الله تعالى الآن وأما الجسم الكلي الذي هو جرم العالم جملة وهو الفلك الكلي فكل جزء منه مقدر مفروض فإن أجزائه المحيطة به من أربع جهات والجزء الذي يليه في جهة عمق الفلك هو مكانه ولا مكان له في الصفحة التي لا تلي الأجزاء التي ذكرنا والله تعالى يمسكه بقوته كما شاء ولا يلاقيه من صفحته العليا شيء أصلاً ولا هنالك مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملا.
قال أبو محمد: ورأيت بعض النوكى ممن ينتمي إلى الكلام قولاً ظريفاً وهو أنه قال أن الله تعالى إذ خلق الأرض خلق جرماً عظيماً يمسكها لئلاً تتحدر سفلاً فحين خلق ذلك الجرم أعدمه وخلق آخر وهكذا أبداً بلا نهاية لأنه زعم لو أبقاه وقتين لاحتاج إلى مسك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له كأن هذا الأنوك لم يسمع قول الله تعالى " إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " فصح أن الله تعالى يمسك الكل كما هو دون عمد لا زيادة ولا جرم آخر ولو أن هؤلاء المخاذيل إذ عدموا العلم تمسكوا باتباع القرآن والسكوت عن الزيادة والخبر عن الله بما لا علم لهم به لكان أسلم لهم في الدين والدنيا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من الضلال وأما من قال أن الحركات أجسام فخطأ لأن الجسم في اللغة موضوع للطويل العريض العميق ذي المساحة وليست الحركة كذلك فليست جسماً ولا يجوز أن يوقع عليها اسم جسم إذ لم يأت ذلك في اللغة ولا في الشريعة ولا أوجبه دليل وأوضح أنها ليست جسماً فهي بلا شك عرض وأما من قال أن الحركة ترى فقول فاسد لأنه قد صح إن البصر لا يقع في هذا العالم إلا على لون في ملون فقط وبيقين ندري أن الحركة لا لون لها فإذ لا لون لها فلا سبيل إلى أن ترى وإنما علمنا كون الحركة لأننا رأينا لون المتحرك في مكان ما ثم رأيناه في مكان آخر علمنا أن ذلك الملون قد انتقل عن مكان إلى مكان بلا شك وهذا المعنى هو الحركة أو بأن يحس الجسم قد انتقل من مكان إلى مكان فيدري حينئذ من لامسه وإن كان أعمى أو مطبق العينين أنه تحرك وبرهان ما قلنا أن الهواء لما لم يكن له لون لم يره أحد وإنما يعلم تموجه وتحركه بملاقاته فإنه منتقل وهو هبوب الرياح وكذلك أيضاً علمنا حركة الصوت بإحساسنا الصوت يأتي من مكان ما وكذلك القول في الحركة في المشموم من الطيب والنتن وحركة المذوق فبطل قولاً من قال أن الحركات ترى وصح أن الحركة ليست لوناً ولا لها لون ولو كان لأمكن لآخر أن يدعي أنه يسمع الحركة وهذا خطأ لأنه لا يسمع إلا الصوت ولأمكن لآخر أن يدعي أن الحركة تلمس وهذا خطأ وإنما يلمس المجسة من الخشونة والإملاس أو غير ذلك من المجسات والحق من هذا إنما هو أن الحركة تعرف وتوجد بتوسط كل ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: والحركات النقلية المكانية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما حركة ضرورية أو اختيارية فالاختيارية هي فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وساير الحيوان كله وهي التي تكون إلى جهات شتى على غير رتبة معلومة الأوقات وكذلك السكون الاختياري والحركة الضرورية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما طبيعة وأما قسرية والاضطرارية هي الحركة الكائنة ممن ظهرت منه عن غير قصد منه إليها وأما الطبيعة فهي حركة كل شيء غير حي مما بناه الله عليه كحركة الماء إلى وسط المركز وحركة الأرض كذلك وحركة الهواء والنار إلى مواضعها وحركة الأفلاك والكواكب دوراً وحركة عروق الجسد النوابض والسكون الطبيعي هو سكون كل ما ذكرنا في عنصره وأما القسرية فهي حركة كل شيء دخل عليه ما يحيل حركته عن طبيعته أو عن اختياره إلى غيرها كتحريك المرء قهراً وتحريكك الماء علواً والحجر وكذلك وكتحريك النار سفلاً والهواء وكذلك وكتصعيد الهواء والماء وكعكس الشمس لحر النار والسكون القسري هو توقيف الشيء في غير عنصره أو توقيف المختار كرهاً وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في التولد
قال أبو محمد: تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتولد وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهماً فجرح به إنساناً أو غيره وفي حرق النار وتبريد الثلج وساير الآثار الظاهرة من الجمادات فقالت طايفة ما تلود من ذلك عن فعل إنسان أو حي فهو فعل الإنسان والحي واختلفوا فيما تولد من غير حي فقالت طائفة هو فعل الله وقالت طائفة ما تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة وقال آخرون كل ذلك فعل الله عز وجل.
قال أبو محمد: فهؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول.
قال أبو محمد: والأمرأ بين من أن يطول فيه الخطاب والحمد لله رب العالمين والصواب في ذلك أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عز وجل فكل ذلك فعل الله عز وجل بمعنى أنه خلقه وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهرت منه من حي أو جماد قال تعالى " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " فنسب عز وجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض وقال " تلفح وجوههم النار " فأخبر تعالى أن النار تلفح وقال تعالى " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " فأخبر عز وجل أن الماء يشوي الوجوه وقال تعالى " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فسمى تعالى المخطئ قاتلاً وأوجب عليه حكماً وهو لم يقصد قتله قط لكنه تولد عن فعله وقال تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فأخبر تعالى أن الكلم والعمل عرض من الأعراض وقال تعالى " أفإن مات أو قتل انقلبتم " وقال تعالى " على شفا جرف هار فانهار به " ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل مات فلا وسقط الحائط فنسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت والسقوط إلى الحائط والانهيار إلى الجرف لظهور كل ذلك منها ليس في القرآن ولا في السنن ولا في العقول شيء غير هذا الحكم ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسول الله ﷺ وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم وهذه صفة من عظمت مصيبته بنفسه ومن لا دين له ولا عقل ولا حياء ولا علم وصح بكل ما ذكرنا أن إضافة كل أثر في العالم إلى الله تعالى هي على غير إضافته إلى من ظهر منه وإنما إضافته إلى الله تعالى لأنه خلقه وأما إضافته إلى من ظهر منه أو تولد عنه فلظهوره منه اتباعاً للقرآن ولجميع اللغات ولسنن رسول الله ﷺ وكل هذه الإخبارات وكلتا هاتين الإضافتين حق لا مجاز في شيء من ذلك لأنه لا فرق بين ما ظهر من حي مختار أو من حي مختار في أن كل ذلك ظاهر مما ظهر منه وأنه مخلوق لله تعالى إلا أن الله تعالى خلق في الحي اختياراً لما ظهر منه ولم يخلق الاختيار فيما ليس حياً ولا مريداً فما تولد عن فعل فاعل فهو فعل الله عز وجل لمعنى أنه خلقه وهو فعل ما ظهر منه بمعنى أنه ظهر منه قال الله تعالى " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وقال تعالى " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون
قال أبو محمد: ذهب القائلون بأن الألوان أجسام إلى المداخلة ومعنى هذه اللفظة أن الجسمين يتداخلان فيكونان جميعاً في مكان واحد.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد لما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب الكلام في الأجسام والأعراض من ديواننا هذا وبالله التوفيق من ذلك أن كل جسم فله مساحة وإذا كان كذلك فله مكان زائد وإذ له مكان بقدر مساحته ولا بد فإن كل جسم زيد عليه جسم آخر فإن ذلك الجسم الزائد يحتاج إلى مكان زائد من أجل مساحته الزائدة هذا أمر يعلم بالمشاهدة فإن اختلط الأمر على من لم يتمرن في معرفة حدود الكلام من أجل ما يرى في الأجسام المتخلخلة من تخلل الأجسام المايعة لها فإنما هذا لأن في خلال أجزاء تلك الأجسام المتخلخلة خروقاً صغاراً مملوءة هواء فإذا صب عليها الماء أو مائع ما ملأ تلك الخروق وخرج عنها الهواء الذي كان فيها وهذا ظاهر للعين محسوس خروج الهواء عنها بنفاخات وصوت من كل ما يخرج عنه الهواء مسرعاً والذي ذكرنا فإنه إذا تم خروج الهواء عنها وزيد في عدد المائع ربا واحتاج إلى مكان زائد وأما الذي ذكرنا قبل فإنه في الأجسام المكتنزة كماء صب على ماء أو دهن على دهن أو دهن على ماء وهكذا في كل شيء من هذه الأنواع وغيرها فصح يقيناً أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض لأن العرض لا يشغل مكاناً فيجد اللون والطعم والمجسة والرائحة والحر والبرد والسكون كل ذلك مداخل للجسم ومداخل بعضه بعضاً ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ولا جسمان في مكان واحد ذم أن المجاورة بين الجسمين تنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر كنقطة رميتها في دم خل أو دن مرق أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عنه ويلبسا معاً كيفيات آخر كما الزاج إذا جاور العفص وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك والثالث أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء وكحجر إلى حجر وثوب إلى ثوب فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة وأما الكمون فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر وذهبت طائفة إلى إبطال هذا وقالت أنه لا نار في الحجر أصلاً وهو قول ضرار بن عمرو.
قال أبو محمد: وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدعى عليها فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون بأن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة وأن الإنسان بطوله وعرضه وعمقه وعظمه كامن في المني وخصومه ينسبون إليه أنه يقول ليس في النار حر ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم.
قال أبو محمد: وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول والحق في ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان والعصير في العنب والزيت في الزيتون والماء في كل ما يعتصر منه وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامناً فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج ومن الأشياء ما ليس كامناً كالنار في الحجر والحديد لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال ناراً وهكذا يعرض لكل شيء منحرق فإن رطوباته تستحيل ناراً ثم دخاناً ثم هواء إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفني كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهي الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ولا ماء فيتصعد وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دخاناً هوائياً وتخرج ناريته حتى يذهب كله وأما القول في النوى والبزور والنطف فإن في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله عز وجل وهي قوة تحتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الواد كل ذلك على النواة والبزر فتحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عوداً ولحاء وورقاً وزهراً وثمراً وخوصاً وكرماً ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلقها الله تعالى فيه لحماً ودماً وعظماً وعصباً وعروقاً وشرائين وعضلاً وغضاريف وجلداً وظفراً وشعراً وكل ذلك خلق الله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلا أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم وهذا أمر ناظرنا عليه من لاقيناه منهم والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضرورة العقل ثم هم يقولون مع هذا أن للزجاج والحصا طعماً ورائحة وأن لقشور العنب رائحة وأن للفلك طعماً ورائحة وهذا إحدى عجائب الدنيا.
قال أبو محمد: وما وجدنا لهم في ذلك حجة غير دعواهم أن الله تعالى خلق كل حر نجده في النار عند مسنا إياها وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسنا إياه وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب والدم عند القطع والشرط.
قال أبو محمد: فإذا تعلقوا من هذا بحواسهم فمن أين قالوا أن للزجاج طعماً ورائحة للفلك طعماً ورائحة وهذا موضع تشهد الحواس بتكذيبهم في أحدهما ولا تدرك الحواس الآخر ويقال لهم لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد وإنما خلفهم الله عند رؤيتكم لهم ولعل بطونكم لا مضارين فيها ورؤوسكم لا أدمغة فياه لكن الله عز وجل خلق كل ذلك عند الشدخ والشق.
قال أبو محمد: وقول الله تعالى يكذبهم إذ قال تعالى " يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " فلولا أن النار تحرق بحرها ما كان يقول الله عز وجل " قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون " فصح أن الحر في النار موجود وكذلك أخبر رسول الله ﷺ أن نار جهنم أشد حراً من نارنا هذه سبعين درجة وقال تعالى " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " فأخبر أن الشجرة تنبت بها وقال تعالى " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " فصح أن السكر والعصير الحلال مأخوذ من الثمر والأعناب ولو لم يكونا فيهما ما أخذا منهما وقد أطبقت الأمة كلها على إنكار هذا الجنون وعلى القول هذا أحلى من العسل وأمر من الصبر وأحر من النار ونحمد الله على السلامة.
الكلام في الاستحالة
قال أبو محمد: احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم أن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيه أثر أنها باقية فيه بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس وكذلك الحبر يرمى في اللبن فلا يظهر له فيه اثر وكذلك الفضة اليسير تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر وهكذا كل شيء قالوا لو أن ذلك المقدار من الماء يحيل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قال أبو محمد: فقلنا لهم أن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عز وجل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ولا ينكر أن يكون مقدار ما يفعل فعلاً ما فإذا كثر لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ونحن نقر معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول أن مقداراً ما من الماء يحيل مقداراً ما مما يلقى فيه من الخل أو الخمر أو العسل ولا يحيل أكثر منه مما يلقى فيه ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المستحيل من الماء لم يستحل من الماء بل أحال الهواء ماء وهكذا كلما ذكرتم وإنما العمدة هاهنا على ما شهدت به أوائل العقول والحواس من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم وحدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمى ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء وهكذا كل ما في العالم ولا نحاشي شيئاً أصلاً ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق أيضاً شيئاً من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأبارج ونقطة مداد في لبن وما أشبه ذلك وهذه رتبة العالم في مقتضى العقول وفيما تشاهد الحواس والذوق والشم واللمس ومن دفع هذا خرج عن المعقول ويلزم الحنيفيين من هذا اجتناب ماء البحر لأن فيه على عقولهم عذرة وبول لا ورطوبات ميتة وكذلك مياه جميع الأنهار أولها عن آخرها نعم وماء المطر أيضاً ونجد الدجاج يتغذى بالميتة والدم والعذرة والكبش يسقي خمراً أن ذلك كله قد استحال عن صفات كل ذلك وطبعه إلى لحم الدجاج والكبش فحل عندنا وعندهم ولو كثر تغذيها به حتى تضعف طبيعتها عن إحالته فوجد في خواصها وفيها صفة العذرة والميتة حرم أكله وهذا هو الذي أنكروه نفسه وهو مقرون معنا في أن الثمار والبقول تتغذى بالعذرة وتستحيل فيها مدة أنها قد حلت وهذا هو الذي أنكروه نفسه وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الطفرة
قال أبو محمد: نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام أنه قال أن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها.
قال أبو محمد: وهذا عين المحال والتخليط إذا إن كان هذا على قوله في أنه ليس في العالم إلا جسم حاشا الحركة فقط فإنه وإن كان قد أخطأ في هذه القصة فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجاً صحيحاً لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجود البتة غلا حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في الأفلاك البعيدة بلا زمان كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان لا تفاضل بين الأدراكين في المدة أصلاً فصح ضرورة أن خلا البصر لو قطع المسافة التي بين الناظر وبين الكواكب ومر عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسير أو أقل فصح يقيناً أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئي قرب أو بعد دون أن يمر في شيء من المسافة التي بينهام ولا يحلها ولا يحازيها ولا يقطعها وأما في سائر الأجسام فهذا محال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى ضرب القصار بالثوب في الحجر من بعد فتراه ثم يقيم سويعة وحينئذ تسمع صوت ذلك الهدم وذلك الضرب فصح يقيناً أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وأن البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها فإذا صح البرهان بشيء ما لم يعترض عليها إلا عديم عقل أو عديم حياء أو عديم علم أو عديم دين وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الإنسان
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الاسم على ما يقع فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس وهو قول أبي الهذيل العلاف وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على النفس دون الجسد وهو قول إبراهيم النظام وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع عليهما معاً كالبلق الذي لا يقع إلا على السواد والبياض معاً.
قال أبو محمد: واحتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عز وجل " خلق الإنسان من صلصال كالفخار " وبقول الله تعالى " فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " وبقوله تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى " وبآيات أخر غير هذه وهذه بلا شك صفة للجسد لا صفة للنفس لأن الروح إنما تنفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد واحتجت الطائفة الأخرى بقوله تعالى " إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً " وهذا بلا خلاف صفة النفس لا صفة الجسد لأن الجسد موات والفعالة هي النفس وهي المميزة الحية حاملة لهذه الأخلاق وغيرها.
قال أبو محمد: وكلا هذين الاحتجاجين حق وليس أحدهما أولى بالقول من الآخر ولا يجوز أن يعارض أحدهما بالآخر لأن كليهما من عند الله عز وجل وما كان من عند الله فليس بمختلف قال تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أن للإنسان اسم يقع على النفس دون الجسد ويقع أيضاً على الجسد دون النفس ويقع أيضاً على كليهما مجتمعين فنقول في الحي هذا إنسان وهو مشتمل على جسد وروح ونقول للميت هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه ونقول أن الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم يعني النفس دون الجسد وأما من قال أنه لا يقع إلا على النفس والجسد معاً فخطأ يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس وعلى النفس دون الجسد وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الجواهر والأعراض وما الجسم وما النفس
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهب هشام بن الحكم إلى أنه ليس في العالم غلا جسم وأن الألوان والحركات أجسام واحتج أيضاً بأن الجسم إذا كان طويلاً عريضاً عميقاً فمن حيث وجدته وجدت اللون فهي فوجب الطول والعرض والعمق للون أيضاً فإذا وجب ذلك للون فاللون أيضاً طويل عريض عميق وكل طويل عريض عميق جسم فاللون جسم وذهب إبراهيم بن سيار النظام إلى مثل هذا سواء سواء غلا الحركات فإنه قال هي خاصة أعراض وذهب ضرار بن عمرو إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض وذهب سائر الناس إلى أن الأجسام هي كل ما كان طويلاً عريضاً عميقاً شاغلاً لمكان وإن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة.
قال أبو محمد: أما الجسم فمتفق على وجوده وأما الأعراض فإثباتها بين واضح بعون الله تعالى وهو أننا لم نجد في العالم غلا قائماً بنفسه حاملاً لغيره أو قائماً بغيره لا بنفسه محمولاً في غيره ووجدنا القائم بنفسه شاغلاً لمكان يملأه وجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكاناً بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ولا وجود قسم زائد على ما ذكرنا فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أن القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكاناً فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل لمكانه جسماً واتفقنا على أن سمينا ما لا يقوم بنفسه عرضاً وهذا بيان برهان مشاهد ووجدنا الجسم تتعاقب عليه الألوان والجسم قائم بنفسه فبينا نراه أبيض صار أخضر ثم أحمر ثم أصفر كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ فبالضرورة نعلم أن الذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجوداً لم يفن وأنهما جميعاً غير الشيء الحامل لهما لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر لعدم بعدمه فدل بقاؤه بعده على أنه غيره ولا بد إذ من المحال الممتنع أن يكون الشيء معدوماً موجوداً في حالة واحدة في مكان واحد في زمان واحد وأيضاً فإن الأعراض هي الأفعال من الأكل والشرب والنوم والجماع والمشي والضرب وغير ذلك فمن أنكر الأعراض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الأفعال ونفى الفاعلين وكل الطائفتين مبطلة لما يشاهد بالحواس ويدرك بالعقل سوفسطائيون حقاً لأن من الأعراض ما يدرك بالبصر وهو اللون إذا ما لا لون له لا يدرك بالشم كالنتن والطيب ومنها ما يدرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة ومنها ما يدرك باللمس كالحر والبرد ومنها ما يدرك السمع كحسن الصوت وقبحه وجهارته وجفوته ومنها ما يدرك بالعقل كالحركة والحمق والعقل والعدل والجوار والعلم والجهل فظهر فساد قول مبطلي الأعراض الأعراض يقيناً والحمد لله رب العالمين فإذ قد صح كل ما ذكرنا فإنما الأسماء عبارات وتمييز للمسميات ليتوصل بها المخاطبون إلى تفاهم مراداتهم من الوقوف على المعاني وفصل بعضها من بعض ليس للأسماء فائدة غير هذه فوجب ضرورة أن يوقع على القائم بنفسه الشاغل لمكانه الحامل لغيره أسماء تكون عبارة عنه وأن يوقع أيضاً على القائم بغيره لا بنفسه المحمول الذي لا يشغل مكاناً اسماً آخر يكون أيضاً عبارة عنه لينفصل بهذين الاسمين كل واحد من ذينك المسميين عن الآخر وإن لم يكن هذا وقع التخليط وعدم البيان واصطلحنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل للمكان جسماً واتفقنا على أن سمينا القائم بغيره لا بنفسه عرضاً لأنه عرض في الجسم وحدث فيه هذا هو الحق المشاهد بالحس المعروف بالعقل وما عدا هذا فهذيان وتخليط لا يعقله قائله فكيف غيره فصح بهذا كله وجود الأعراض وبطلان قول من أنكرها وصح أيضاً بما ذكرنا أن حد اللون والحركة وكل ما لا يقوم بنفسه هو غير حد القائم بنفسه فإذ ذلك كذلك فلا جسم إلا القائم بنفسه وكل ما عداه فعرض فلاح بهذا صحة قول من قال بذلك وبطل قول هشام والنظام وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاج هشام بوجود الطول والعرض والعمق الذي توهمها في اللون فإنما هو طول الجسم الملون وعرضه وعمقه فقط وليس للون طول ولا عرض ولا عمق وكذلك الطعم والمجسة والرائحة وبرهان ذلك أنه لو كان للجسم طول وعرض وعمق وكان للون طول غير طول الملون الحامل له وعرض آخر غير عرض الحامل له وعمق آخر غير عمق الملون الحامل له لاحتاج كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعاً في واحد ليس هو إلا ذراع في ذراع فقط ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة لأن كل هذه الصفات توجد من كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه كما يوجد اللون ولا فرق وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له الرائحة والطعم والمجسة لا للون ولا للطعم مكان ولا للرائحة ولا للمجسة وقد نجد جسماً طويلاً عريضاً عميقاً لا لون له وهو الهواء ساكنه ومتحركه وبالضرورة ندري أنه لو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئاً.
قال أبو محمد: فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسماً سألناه
عما في داخل الزق المنفوخ ما هو وعما يلقي الذي يجرى فرساً جواداً بوجهه
وجسمه فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكثر محسوس وبرهان آخر وهو أن كل أحد
يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج
كل واحد منهما أيضاً إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلاً إلى ما
لا نهاية له وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق وأما
قول ضرار أن الأجسام مركبة من الأعراض فقول فاسد جداً لأن الأعراض قد صح
كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها وصح أن الأجسام
ذات أطوال وعروض وأعماق وقائمة بأنفسها ومن المحال أن يجتمع ما لا طول له
ولا عرض ولا عمق مع مثله فيتقوم منها ما له طول وعرض وعمق وإنما غلط فياه
من توهم أن الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط والخطوط
مركبة من النقط.
قال أبو محمد: وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة فإنما هي تناهي
الجسم وانقطاعه في تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط وأما الخطوط
المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها وأما النقط فهي تناهي
جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم
التمادي ومن المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود وإنما السطوح المجسمة
والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ولا تكون
الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل وحد هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضاً واحداً فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة.
قال أبو محمد: وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غاية الفساد والبطلان أو لا أنها كلها دعاوي مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلاً لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحسي يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعى ما شاء وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد وأما نحن فنقول أنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهراً حاملاً لأعراضه وأعراضاً محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعدي أحدهما عن الآخر فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هتان الطائفتان
اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين
الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوه وقالوا أنه ليس جسماً ولا عرضاً فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولى والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولى بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال المراد بذلك الجسم متعرياً من جميع أعراضه وأبعاده وبعضهم قال المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه تكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره وزاد بعضهم في الجوهر الخلا والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعنى بالخلا المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود.
قال أبو محمد: وهذه أقوال شيء منها لمن ينتمي إلى الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين والدهرية والنصاري في تسميتهم الباري تعالى جوهراً فإنهم سموه في أمانتهم التي لا يصح عندهم دين لملكي ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا لهاروني إلا باعتقادها وإلا فهو كافر بالنصرانية قطعاً حاشا تسميته الاباري تعالى جوهراً فإنه للمجسمة أيضاً وحاشا القول بأن النفس جوهر لا جسم فإنه قد قال به العطار أحد رؤساء المعتزلة وأما المنتمون إلى الإسلام فإن الجوهر الذي ليس جسماً ولا عرضاً ليس هو عندهم شيئاً إلى الأجزاء الصغار التي لا تتجزأ إليها تنحل الأجسام بزعمهم وقد ذكر هذا عن بعض الأوائل أيضاً فهذه ثمانية أشياء كما ذكرنا لا نعلم أحداً سمي جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وغيرها إلا أن قوماً جهالاً يظنون في القوي الذاتي أنها جواهر وهذا جهل منهم لأنها بلا خلاف محمولة فيما هي غير قائمة بنفسها وهذه صفة العرض لا صفة الجوهر بلا خلاف.
قال أبو محمد: فأما الخلا والمدة فقد تقدم إفسادنا لهذا القول في صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وفي كتابنا الموسوم بالتحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحخمد بن زكريا الطيب وحللنا كل دعوى أوردها هو وغيره في هذا المعنى بأبين شرح والحمد لله رب العالمين كثيراً وأثبتنا في صدر كتابنا هذا وهنالك أنه ليس في العالم خلا البتة وأنه كله كرة مصمتة لا تخلل فيها وأنه وليس وراءها خلاء لا ملاء ولا شيء البتة وأن المدة ليست للأمد أحدث الله الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرافة وسارقة الماء والآلة التي تدخل في إحليل من به أسر البول براهين ضرورية بتحقيق أن لا خلاء في العالم أصلاً وأن الخلاء عند القائلين به إنما هو مكان لا تمكن فيه وهذا محال بما ذكرنا لأنه لو خرج الماء من الثقب الذي في أسفل سارقة الماء وقد شد أعلاها لبقي مكانه خالياً بلا متمكن فيه فإذا لم يمكن ذلك أصلاً ولا كان فيه بنية العالم وجوده وقف الماء باقياً لا ينهرق حتى إذا فتح أعلاها ووجد الهواء مدخلاً خرج الماء وانهرق لوقته وخلفه الهواء وكذلك الزرافة والآلة المتخذة لمن به أسر البول فإنه إذا حصلت تلك في داخل الإحليل وأول المثانة ثم جبذ الزر المغلق ليقها إلى خارج اتبعه البول ضرورة وخرج إذ لم يخرج لبقي ثقب الآلة خالياً لا شيء فيه وهذا باطل ممتنع وقد بينا في صدر كتابنا كما اعترض به الملحدون المخالفون لنا في هذا المكان فأغني عن إعادته فإن قال قائل فالماء الذي اخترعه له والثريد الذي اخترع له من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملأ لا خلا فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد قلنا وبالله تعالى التوفيق لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون الله عز وجل أحال أجزاء من الهوى ماء وتمراً وثريداً فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير فسقط قولهم في الخلا والمدة والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما الصورة فكيفية بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونها ولا تتوهم الجواهر عارية عنها والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانت قال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها عرض بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما العقل فلا خلاف بين أحد له عقل سليم في أنه عرض محمول في النفس وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والأضعف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضد لها وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط وقد اعترض في هذا بعض من يدعي له علم الفلسفة فقال ليس في العقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه فقلت للذي ذكر لي هذا البحث أن هذه سفسطة وجهل لو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ولا لشيء من الكيفيات ضد ولكن لوجودها ضد وهو عدمها فيبطل التضاد من جميع الكيفيات وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها وهذا أيضاً قول كل من له أدنى فهم من الأوايل والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما يحسن به المغبة في دار البقاء وعالم الجراء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا وبهذا أيضاً جاءت الرسل عليهم السلام قال الله عز وجل " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " وقال تعالى " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون " وقال تعالى " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " وقال تعالى " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " وقال تعالى " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون " فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات وقال تعالى عن الكفار " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ومثل هذا في القرآن كثير فصح أن العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط من غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر وأن له فلكاً فعول على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن لفظة العقل عربية أتى بها المترجمون عبارة عن لفظة أخرى يعبر عنها في اليونانية أو في غيرها من اللغات عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية هذا ما لا خفاء به عند أحد ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبرة بها عن عرض وكان مدعى خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهتاً بلا شك ولقد قال بعض النوكي الجهال لو كان العقل عرضاً لكانت الأجسام أشرف منه فقلت للذي أتاني بهذا وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه وهل شرف جوهر قط إلا بصفاته لا بذاته هل يخفى هذا على أحد ثم قلنا ويلزمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل أن لا يخالفوننا في أنها أعراض فعلي مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها اشرف منها وهذا كما ترى وأما الهيولى فهو الجسم نفسه الحامل لأعراضه كلها وإنما أفردته الأوائل بهذا الاسم إذ تكلموا عليه مفرداً في الكلام عليه عن سائر أعراضه كلها من الصورة وغيرها مفصولاً في الكلام عليه خاصة عن أعراضه وإن كان لا سبيل إلى أن يوجد خلياً عن أعراضه ولا متعرياً منها أصلاً ولا يتوهم وجوده كذلك ولا يتشكل في النفس ولا يتمثل ذلك أصلاً بل هو محال ممتنع جملة كما أن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوع أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد لأن قولنا الإنسان الكلي يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء أخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا تقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام وبالله تعالى التوفيق لكن الأوائل سمتها وسمت الصفات الأوليات الذاتيات جوهريات لا جواهر وهذا صحيح لأنها منسوبة إلى الجواهر لملازمتها لها وأنها لا تفارقها البتة ولا يتوهم مفارقتها لها وبالله تعالى التوفيق فبطل قولهم في الخلا والمدة والصورة والعقل والهيولى والحمد لله رب العالمين وأما الباري تعالى فقد أخطأ من سماه جوهراً من المجسمة ومن النصارى لأن لفظة الجوهر لفظة عربية ومن أثبت الله عز وجل ففرض عليه إذ أقر أنه خالقه وإلاهه ومالك أمره ألا يقدم عليه في شيء إلا بعهد منه تعالى وإلا يخبر عنه إلا بعلم متيقن ولا علم ههنا إلا ما أخبر به عز وجل فقط فصح يقيناً أن تسمية الله عز وجل جوهراً والأخبار عنه بأنه جوهر حكم عليه تعالى بغير عهد منه وأخبار عنه تعالى بالكذب الذي لم يخبر قط تعالى به عن نفسه ولا سمي به نفسه وهذا إقدام لم يأتنا قط به برهان بإباحته وأيضاً فإن الجوهر حامل لأعراض ولو كان الباري تعالى حاملاً لعرض لكان مركباً من ذاته وأعراضه وهذا باطل وأما النصارى فليس لهم أن يتسوروا على اللغة العربية فيصرفوها عن موضعها فبطل أن يكون تعالى جوهراً لبراءته عن حد الجوهر وبطل أن يسمي جوهراً لأنه تعالى لم يسم نفسه به وبالله تعالى التوفيق فبطل قول من سمي الله تعالى جوهراً وأخبر عنه أنه تعالى جوهر ولله تعالى الحمد فلم يبق إلا النفس والجزء الذي لا يتجزأ ونحن إن شاء الله تعالى نتكلم فيهما كلاماً مبيناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد: اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن ابن كيسان الأصم إنكار النفس جملة وقال لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسي وقال جالينوس وأبو الهذيل محمد ابن الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ثم اختلفا فقال جالينوس هي مزاج مجتمع متولد من تركيب أخلاط الجسد وقال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس وقالوا والروح عرض وهو الحياة فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية وقالت طائفة النفس جوهر ليست جسماً ولا عرضاً ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمر بن عمر والعطار أحد شيوخ المعتزلة وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد.
قال أبو محمد: وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد.
قال أبو محمد: أما قول أبي بكر ابن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل أما النص فبقول الله تعالى " اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الآية " فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت.
قال أبو محمد: وأما البرهان العقلي فإننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه أو فك مسألة عويصة عكس ذهنه وأفرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد جملة وتبرأ منه حتى أنه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما يقال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان فصح أن الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلى منه عند إرادتهما وأيضاً فالذي يراه النائم مما يخرج حقاً على وجهه وليس ذلك غلا إذا تخلت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدي وعمل ذوقه الجسدي وكلام لسانه الجسدي فصح يقيناً أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد فصح أنه المسمى نفساً إذ لا شيء غير ذلك وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو فصح يقيناً أن ههنا متمثلاً مدركاً غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس في شيء مما ذكرنا البتة ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل والجسم بحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن ههنا مريداً للأشياء غير الجسد ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد ومنها ما يرى من بعض المحصرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أحد ما كان ذهناً وأصح ما كان تميزاً وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة وأصحهم نظراً وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى فصح أن المدرك للأمور المدبر للجسد الفعال المميز الحي هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفساً وصح أن الجسد مؤذ للنفس وأنها مذ حلت في الجسد كأنها وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها بها كلما سلف لها وأيضاً فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متمادياً وحياته متصلة في حال نومه وموته ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحاً سالماً لم ينتقض منه شيء من أعضائه وقد بطلت أفعاله كلها جملة فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة وإن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ منه وأيضاً فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضواً عضواً بالقطع والفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوي النفس باقية أوفر ما كان فصح ضرورة أن الفعال العالم الذاكر المدبر المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان فإنه يبطل أيضاً قول جالينوس وأيضاً فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب والماء والهواء والنار فإنها كلها موات بطبعها ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجتمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي وكذلك محال أن تجتمع بوارد فيقوم منها حار أو حوار فيجتمع منها بارد أو حي وحي وحي فيقوم منها موات فبطل أن تكون النفس مزاجاً وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أنها عرض فقط وقول من قال إنما النفس النسيم الداخل والخارج من الهواء وأن الروح هو عرض وهو الحياة فإن كلى هذين القولين يبطلان بكل ما ذكرنا إبطال قول الأصم بن كيسان وأيضاً فإن أهل هذين القولين ينتمون إلى الإسلام والقرآن يبطل قولهم نصاً قال الله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " فصح ضرورة أن الأنفس غير الأجساد وأن الأنفس هي المتوفاة في النوم والموت ثم ترد عند اليقظة وتمسك عند الموت وليس هذا التوفي للأجساد أصلاً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن العرض لا يمكن أن يتوفى فيفارق الجسم الحامل له ويبقى كذلك ثم يرد بعضه ويمسك بعضه هذا ما لا يكون ولا يجوز لأن العرض يبطل بمزايلته الحامل له وكذلك لا يمكن أن يظن ذو مسكة من عقل أن الهواء الخارج والداخل هو المتوفي عند النوم وكيف ذلك وهو باق في حال النوم كما كان في حال اليقظة ولا فرق وكذلك قوله تعالى " والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " فإنه لا يمكن أن يعذب العرض ولا الهواء وأيضاً فإن الله عز وجل يقول " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " الآية.
قال أبو محمد: فهذه آية ترفع الأشكال جملة وتبين أن النفس غير الجسد وإنما هي العاقلة المخاطبة المكلفة لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن الأجساد حين أخذ الله عليها هذا العهد كانت مبددة في التراب والماء والهواء والنار ونص الآية يقتضي ما قلنا فكيف وفيها نص أن الأشهاد إنما وقع على النفوس وما أدري كيف تنشرح نفس مسلم بخلاف هذه النصوص وكذلك أخبار رسول الله ﷺ أنه رأى عند سماء الدنيا ليلة أسري به عن يمين آدم وعن يساره نسم بنيه فأهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاوة عن يساره عليه السلام ومن الباطل أن تكون الأعراض باقية هنالك أو أن يكون النسيم هنالك وهو هواء مترد في الهواء.
قال أبو محمد: ولو كان ما قاله أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقاً لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاثة مائة ألف نفس لأن العرض عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبداً فروح كل حي على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفساً كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفاً وهذا حمق لا خفاء به فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة والإجماع والمشاهدة والمعقول والحمد لله رب العالمين هذا مع تعريهما من الدليل جملة وأنها دعوى فقط وما كان هكذا فهو باطل وقد صرح الباقلاني عند ذكره لما يعترض في أرواح الشهداء وأرواح آل فرعون فقال هذا يخرج على وجهين بأن يوضع عرض الحياة في أقل جزء من أجزاء الجسم وقال بعض من شاهدناه منهم توضع الحياة في عجب الذنب واحتج بالخبر عن رسول الله ﷺ كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة وفي رواية منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا تمويه من المحتج بهذا الخبر لأنه ليس في الحديث لا نص ولا دليل ولا إشارة يمكن أن يتأول على أن عجب الذنب يحيا وإنما في الحديث أن عجب الذنب لا يأكله التراب وأنه من خلق الجسد وفيه يركب فقط فظهر تمويه هذا القائل وضعفه والحمد لله رب العالمين قال الباقلاني وأما أن يخلق لتلك الحياة جسد آخر فلا.
قال أبو محمد: وهذا مذهب أصحاب التناسخ بلا مؤونة واحتج لذلك بالحديث المأثور أن نسمة المؤمن طير يعلف من ثمار الجنة ويأوي إلى قناديل تحت العرش وفي بعضها أنها في حواصل طير خضر.
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا الخبر لأن معنى قوله عليه السلام طائر يعلف هو على ظاهره لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر عليه السلام أن نسمة المؤمن طائر بمعنى أنها تطير في الجنة فقط لا أنها تنسخ في صور طير فإن قيل أن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب فقال أوليس صحيفة وكذلك النسمة روح فتذكر لذلك وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها والحديثان معاً حديث واحد وخبر واحد.
قال أبو محمد: ولم يحصل من هذين الوجهين الفاسدين إلا على دعوى كاذبة بلا دليل يشبه الهزل أو على كفر مجرد في المصير إلى قول أصحاب التناسخ وعلى تحريف الحديث عن وجهه ونعوذ بالله من الخذلان فبطل هذان القولان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أن النفس جوهر لا جسم من الأوائل ومعمر وأصحابه فإنهم موهوا بأشياء إقناعيات فوجب إيرادها ونقضها ليظهر البرهان على وجه الإنصاف للخصم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: قالوا لو كان النفس جسماً لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إرادته تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله إذ النفس هي المحركة للجسد والمريدة لحركته قالوا فلو كان المحرك للرجل جسماً لكان لا يخلوا إما أن يكون حاصلاً في هذه الأعضاء وإما جائياً إليها فإن كان جائياً إليها احتاج إلى مدة ولا بد وإن كان حاصلاً فيها فنحن إذا قطعنا تلك العصبة التي بها تكون الحركة لم يبق منها في العضو الذي كان يتحرك شيء أصلاً فلو كان ذلك المحرك حاصلاً فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو.
قال أبو محمد: وهذا لا معنى له لأن النفس لا تخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تكون مجللة لجميع الجسد من خارج كالثوب وإما أن تكون متخللة بجميعه من داخل كالماء في المدرة وإما أن تكون في مكان واحد من الجسد وهو القلب أو الدماغ وتكون قوها منبثة في جميع الجسد فأي هذه الوجوه كان فتحريكها لما يريد تحريكه من الجسد يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقي في البعد بلا زمان وإذا قطعت العصبة لم ينقطع ما كان من جسم النفس مخللاً لذلك العضو إن كانت متخللة لجميع الجسد من داخل أو مجللة له من خارج بل يفارق العضو الذي يبطل حسه في الوقت وينفصل عنه بلا زمان وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء الذي ملئ ماء وأما أن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من الجسد فلا يلزم على هذا القسم أن يسلب من العضو المقطوع بل يكون فعلها حينئذ في تحريكها الأعضاء كفعل حجر المغنطيس في الحديد وإن لم يلصق به بلا زمان فبطل هذا الإلزام الفاسد والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن نعلم ببعضها أو قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد تقسيمه والجواب وبالله تعالى التوفيق أنها لا تعلم إلا بكلها أو ببعضها لأن كل بسيط غير مركب من طبائع شتى فهو طبيعة واحدة وما كان طبيعة واحدة فقوته في جميع أبعاضه وفي بعض أبعاضه سواء كالنار تحرق بكلها وببعضها ثم لا ندري ما وجه هذا الاعتراض علينا بهذا السؤال ولا ما وجه استدلالهم منه على أنها غير جسم ولو عكس عليهم في إبطال دعواهم أنها جوهر لا جسم لما كان بينهم وبين السائل لهم بذلك فرق أصلاً وقالوا أن من شأن الجسم أنك إذا زدت عليه جسماً آخر زاد في كميته وثقله قالوا فلو كانت النفس جسماً ثم داخلت الجسم الظاهر لوجب أن يكون الجسد حينئذ أثقل منه دون النفس ونحن نجد الجسد إذا فارقته النفس أثقل منه إذا كانت النفس فيه.
قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد ومقدمة باطلة كاذبة لأنه ليس كل جسم كما ذكروا من أنه إذا أزيد عليه جسم آخر كان أثقل منه وحده وإنما يعرض هذا في الأجسام التي تطلب المركز والوسط فقط يعني التي في طبعها أن تتحرك سفلاً وترسب من المائيات والأرضيات وأما التي تتحرك بطبعها علواً فلا يعرض ذلك فيها بل الأمر بالضد وإذا أضيف جسم منها إلى جسم ثقيل خففه فإنك ترى أنك لو نفخ زقا من جلد ثور أو جلد بعير لو أمكن حتى يمتلئ هو آثم وزنته فإنك لا تجد على وزنه زيادة على مقدار وزنه لو كان فارغاً أصلاً وكذلك ما صمد من الزقاق ولو أنه ورقة سوسنة منفوخة ونحن نجسد الجسم العظيم الذي إذا أضفته إلى الجسم الثقيل خففه جداً فإنك لو رميت الزق غير المنفوخ في الماء الرسب فإذا نفخته ورميت به خف وعام ولم يرسب وكذلك يستعمله العائمون لأنه يرفعهم عن الماء ويمنعهم من الرسوب وهكذا النفس مع الجسد وهو باب واحد كلى لأن النفس جسم علوي فلكي أخف من الهواء وأطلب للعلو فهي تخفف الجسد إذا كانت فيه فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضاً لو كانت النفس جسماً لكانت ذات خاصية إما خفيفة وإما ثقيلة وإما حارة وإما باردة وإما لينة وإما خشنة.
قال أبو محمد: نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل وأما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم فهي منفعلة لكل ما ذكرنا وهذا يثبت أنها جسم قالوا إنما من كان الأجسام فكيفياته محسوسة وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس بجسم وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسماً.
قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة لأن قولهم أن ما لا تحس كيفياته فليس جسماً دعوى كاذبة لا برهان عليها أصلاً لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو قول ساقط مطروح لا يعجز عن مثله أحد ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل هذه الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى وهو أن الفلك جسم وكيفياته غير محسوسة وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقع خط البصر عليها وبرهان ذلك تبدل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له فمرة تراه أبيض صافي البياض ومرة ترى فيه حمرة ظاهرة فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المجسة فقط كالهواء ومنها النار في عنصرها لا يقع عليها شيء من الحواس أصلاً بوجه من الوجوه وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله فوجب من هذا أن الجسم كل ما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حس البتة إلا للنفس ولا حساس إلا هي فهي حساسة لا محسوسة ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوساً فسقط قولهم جملة والحمد لله رب العالمين وقالوا أن كل جسم فإن لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا قال أبو محمد: وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفاً لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبر كالهواء وكالنار في عنصرها وإن ما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات فهي حساسة لا محسوسة وإنما تعرف بآثارها وبراهين عقلية وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حساس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس وهي التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عليها من الفضائل والزرئل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض بالعقل والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام هي مؤثرة فيها تألم وتلتذ وتفرح وتحزن وتغضب وترضى وتعلم وتجهل وتحب وتكره وتذكر وتنسي وتنتقل وتحل فبطل قول هؤلاء أن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها وكل دعوى عريت من دليل فهي باطلة وقالوا كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض والعمق والسطح والشكل والكم والكيف فإن كانت النفس جسماً فلا بد أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها فأي الوجهين كان فهي إذا محاط بها وهي مدركة بالحواس أو من بعضها ولا نرى الحواس تدركها فليست جسماً.
قال أبو محمد: هذا كله صحيح وقضايا صادقة حاشا قضية واحدة ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل وسائر ذلك صحيح وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضاً إفسادنا لها آنفاً مع تعريها عن دليل يصححها ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ذات مكان وزمان لأن هذه خواص الجسم ولا بد والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا فهي إذاً مدركة بالحواس وهذا عين الباطل لأن حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ولا على السطح ولا على الشكل ولا على المساحة ولا على الكيفية ولا على الخط وإنما تقع حاسة البصر على اللون فقط فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حاسة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلا فلا وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ وعلمت ذلك المصوت بتوسطه وإلا فلا وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسة الشم وعلمت حامل الرائحة بتوسط الرائحة وإلا فلا وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عليه حينئذ حاسة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا وإن كل في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليه حاسة اللمس حينئذ وعلمت الملموس بتوسط المجسة وإلا فلا وقالوا أن من خاصة الجسم أن يقبل التجزي وإذا جزئ منه الجزء الصغير والكبير ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير فلا يخلوا حينئذ من أحد أمرين إما أن يكون كل جزء منها نفساً فيلزم من ذلك أن لا تكون النفس نفساً واحدة بل تكون حينئذ أنفساً كثيرة مركبة من أنفس وإما أن لا يكون كل جزء منها نفساً فيلزم أن لا تكون كلها نفساً.
قال أبو محمد: أما قولهم أن خاصة الجسم احتمال التجزي فهو صدق والنفس محتملة للتجزي لأنها جسم من الأجسام وأما قولهم أن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون في المساحة فنعم وأما في غير ذلك فلا وأما قولهم أنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفساً وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزي بالقوة وإن كان التجزي بانقسامها غير موجود بالفعل وهكذا القول في الفلك والكواكب كل ذلك محتمل للتجزي بالقوة وليس التجزي موجوداً في شيء منها بالفعل وأما قولهم أنها مركبة من أنفس فشغب فاسد لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسميات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره وإلا فقد وقع الأشكال وبطل التفاهم وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق ووجدنا العالم ينقسم قسمين أحدهما مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركباً والثاني مؤلف من طبيعة واحدة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطاً ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالإنسان الجزئي فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنساناً فإذا تألف سمي المتألف منها إنساناً ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالأرض والماء والهواء وكالنار وكالفلك فهو فلك وكل جزء من النفس نفس وليس ذلك موجباً أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء مؤلفاً من أهوية ولا أن يكون الفلك مؤلفاً من أفلاك ولا أن تكون النفس مؤلفة من أنفس وحتى لو قيل ذلك بمعنى أن كل بعض منها يسمى نفساً وكل بعض من الفلك يسمى فلكاً فما كان في ذلك ما يعترض به على أنها جسم كسائر الأجسام التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضاً طبع ذات الجسم أن يكون غير متحرك والنفس متحركة فإن كانت هذه الحركة التي فيها من قبل الباري تعالى فقد وجدنا لها حركات فاسدة فكيف يضاف ذلك إلى الباري تعالى.
قال أبو محمد: وهذا الكلام في غاية الفساد والهجنة ولقد كان ينبغي لمن ينتسب إلى العلم إن كان يدري مقدار سقوط هذه الاعتراضات وسخفها أن يصون نفسه عن الاعتراض بها لرذالتها وإن كان لا يدري رذالتها فكان الأولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم فأما قوله أن طبع ذات الجسم أن تكون غير متحركة فقول ظاهر الكذب والمجاهرة لأن للأفلاك والكواكب أجساماً وطبعها الحركة الدايمة المتصلة أبداً إلى أن يحيلها خالقها عن ذلك يوم القيامة وأن للعناصر دون الفلك أجساماً وطبعها الحركة إلى مقرها والسكون في مقرها وأما النفس فلأنها حية كان طبعها السكون الاختياري والحركة الاختيارية حيناً وحيناً هذا كله لا يجهله أحد به ذوق وأما قولهم أن لها حركات ردية فكيف تضاف إلى الباري تعالى فإنما كان بعض حركات النفس ردياً بمخالفة النفس أمر باريها في تلك الحركات وإنما أضيفت إلى الباري تعالى لأنه خلقها فقط على قولنا أو لأنه تعالى خلق تلك القوى التي بها كانت تلك الحركات فسقط إلزامهم الفاسد والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضاً أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير واحتمال الإنقسام أبداً بلا غاية ليس شيء منها إلا هكذا أبداً فهي محتاجة إلى من يربطها ويشدها ويحفظها ويكون به تماسكها قالوا والفاعل لذلك النفس فلو كانت النفس جسماً لكانت محتاجة إلى من يربطها ويحلها فيلزم من ذلك أن تحتاج إلى نفس أخرى والأخرى إلى أخرى والأخرى كذلك إلى ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل.
قال أبو محمد: هذا أفسد من كل قول سبق من تشغيباتهم لأن مقدمته مغشوشة فاسدة كاذبة أما قولهم أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير على الإطلاق كذب لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضاً ثم تبقى غير منحلة ولا مستحيلة وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إلى جهل ومن جهل إلى علم ومن حرص إلى قناعة ومن بخل إلى جود ومن رحمة إلى قسوة ومن لذة إلى ألم هذا كله موجود محسوس وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفساً فلا وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب والفلك لا يصير غير فلك وأما قوله أن الأجسام محتاجة إلى ما يشدها ويربطها ويمسكها فصحيح وأما قوله أن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني بل هو تمويه مدلس ليجوز باطله على أهل الغفلة وهكذا قول الدهرية وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبدى للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض والمتمم لكل ذلك هو الخالق الباري المصور عز وجل فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك دون الله تعالى وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضاً كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فإن كانت النفس جسماً فهي متنفسة أي ذات نفس وإما لا متنفسة أي لا ذات نفس فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً وإن كان متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل.
قال أبو محمد: هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة وأما قولهم أن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح وأما قولهم أن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً فشغب فاسد بارد لا يلزم لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت غليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة مدبرة لذلك الجسم الذي استضافت إليه ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس إنما هو أنه لم يستضف إليه نفس فالنفس الحية هي المتحركة المدبرة وهي غير محتاجة إلى جسم مدبر لها ولا محرك لها فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفساً ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال أن الجسم يحتاج إلى جسم كما قالوا أنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسماً كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفساً وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسماً لكان الجسم نفساً.
قال أبو محمد: وهذا من الجهل المفرط المظلم ولو كان لقائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لم يأت بهذه الغثاثة لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاساً مطرداً إلى موجبة جزئية لا كلية وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسماً وجب أن يكون الجسم إنساناً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون الجسم كلباً وهذا غاية الحمق والقحة لكن صواب القول في هذا أن يقول لما كانت النفس جسماً كان بعض الأجسام نفساً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون بعض الأجسام كلباً وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطراداً صحيحاً أبداً وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فهي بعض الأجسام وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها فيجب أن تكون أشرف منها.
قال أبو محمد: من عدم الحياء والعقل لم يبال بما نطق به لسانه وهذه قضية في غاية الحمق لأنها توجب أن الشرف إنما هو بعظم الأجسام وكثرة المساحة ولو كان كذلك لكانت القضية والبلية وكان الحمار والبغل وكدس العذرة أشرف من الإنسان المنباء والفيلسوف لأن كل ذلك أعظم مساحة منه ولكانت الغرلة أشرف من ناظر العين والآلية أشرف من القلب والكبد والدماغ والصخر أشرف من اللؤلؤة وأف لكل علم أدى إلى مثل هذا نعم فإن كثيراً من الأجسام أعظم مساحة من النفس وليس ذلك موجباً أنها اشرف منها مع أن النفس الرذلة المضربة عما أوجبه التمييز وعن طاعة ربها إلى الكفر به فكل شيء في العالم أشرف منها ونعوذ بالله من الخذلان وقالوا إن كانت النفس جسماً آخر مع الجسم فالجسم نفس وشيء آخر وإذا كان كذلك فالجسم أتم وإذا كان أتم فهو أشرف.
قال أبو محمد: وهذا جنون مردد لأنه ليس بكثرة العدد يجب الفضل والشرف ولا بعموم اللفظ يجب الشرف بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ولو كان ما قال وه لوجب أن تكون الأخلاق جملة شرف من الفضائل خاصة لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حملهم السخيف أشرف وهذا ما لا يقوله ذو عقل وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس لأنه نفس وشيء آخر وقد قالوا أن الحي يقع تحت النامي فيلزمهم أن النامى أشرف من الحي لأنه حي وشيء آخر وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس وقالوا أيضاً كل جسم يتغذى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم.
قال أبو محمد: إن كان هؤلاء السخفاء إذ اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر لأن سكر الخمر سريع الإفاقة سكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وإن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط وهي أجساد الحيوان السكان في الماء والأرض والشجر والنبات فقط فإذا كان عند هؤلاء النوكى ما لا يتغذى ليس جسماً فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كل ذلك جسماً وكفى بهذا جنوناً وخطأ ونحمد الله على السلامة وقالوا لو كانت النفس جسماً لكانت لها حركة لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسماً.
قال أبو محمد: هذه دعوى كاذبة وقد تناقضوا أيضاً فيها لأنها قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم أن الأجسام غير متحركة والنفس متحركة وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقولهم وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة وليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ويلزمهم إذ أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس جملة لأنهم أيضاً لا يرونها ولا يسمونها ولا يلمسونها ولا يذوقونها وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحركة اختيار فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقيناً وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك وإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح لا تلك الوساوس والأهذار ونحمد الله على نعمه عز وجل وقالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن يكون اتصالها بالجسم إما على سبيل المجاورة وإما على سبيل المداخلة وهي الممازجة.
قال أبو محمد: فبعد هذا ماذا ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة وأما اتصال المداخلة فإنما هي بين العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل وقالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فكيف يعرف الجسم بمماسة أو بغير مماسة.
قال أبو محمد: لأجسام كلها حاشا النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئاً وإنما العلم والحس للنفس فقط فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خلقها أيضاً بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عز وجل وسؤالهم بارد وقالوا أيضاً أن كل جسم بدأ في نشوة وغاية ينتهي إليها وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف وليست الأنفس كذلك لأننا نرى أنفس المعمرين اكثر ضياء وأنفذ فعلاً ونجد أبدانهم أضعف من أبدان الأحداث فلو كانت النفس جسماً لنقص فعلها بنقصان البدن فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسماً.
قال أبو محمد: هذه مقدمة فاسدة الترتيب أما قولهم أن الجسم أجود ما يكون إذ انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبولية فقط كالشجر وأصناف أجساد الحيوان والنبات وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذا بلغتها أخذت في الانحطاط وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ولا نماء له وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها وكل ذلك باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك والنفس كذلك منتقلة من عالم الابتداء إلى عالم الانتهاء إلى عالم البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء فتخلد فيه أبداً بلا نهاية وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفي نظراً وأصح علماً كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين.
قال أبو محمد: هذا ما موهوا به من كل نطيحة ومتردية قد تقصيناه لهم وبينا أن كله فساد وحماقات وتقصيناه بالبراهين الضرورية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإذا بطل كل ما شغب به من يقول أن النفس ليست جسماً وسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة جملة فنحن إن شاء الله تعالى نوضح بعون الله عز وجل وقوته البراهين الضرورية على أنها جسم وبالله تعالى نتأيد وذلك بعد أن نبين بتأييد الله عز وجل شغبين يمكن أن يعترض بهما إن قال قائل أتنمو النفس فإن قلتم لا قلنا نحن نجدها تنشأ من صغر إلى كبر وترتبط بالجسد بالغذاء وإذا انقطع الغذاء انحلت عن الجسد ونجدها تسوء أخلاقها ويقل صبرها بعدم الغذاء فإذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت.
قال أبو محمد: لا تتغذى ولا تنمو أما عدم غذائها فالبرهان القائم أنها ليست مركبة من الطبائع الأربع وأنها بخلاف الجسد هذا هو البرهان على أنها لا تتغذى وهو أن ما تركب من العناصر الأربعة فلا بد له من الغذاء ليستخلف ذلك الجسد أو تلك الشجرة أو ذلك النبات من رطوبات ذلك الغذاء أو أرضياته مثل ما تحلل من رطوباته بالهواء والحر وليست هذه صفة النفس إذ لو كانت لها هذه الصفة لكانت من الجسد أو مثله ولو كانت من الجسد أو مثله لكانت مواتاً كالجسد غير حساسة فإذ قد بطل أن تكون مركبة من طبائع العناصر بطل أن تكون متغذية نامية وأما ارتباطها بالجسد من أجل الغذاء فهو أمر لا يعرف كيفيته إلا خالقها عز وجل الذي هو مدبرها إلا أنه معلوم أنه كذلك فقط وهو كطحن المعدة للغذاء لا يدري كيف هو وغير ذلك مما يوجد الله عز وجل يعلمه ومن البرهان على أن النفس لا تتغذى ولا تنمو إن البرهان قد قام على أنها كانت قبل تركيب الجسد على آباد الدهور وأنها باقية بعد انحلاله وليس هنالك في ذينك العالمين غذاء يولد نماءً أصلاً وأما ما ظنوه من نشأتها من صغر إلى كبر فخطأ وإنما هو عودة من النفس إلى ذكرها الذي سقط عنها بأول ارتباطها بالجسد فإن سأل سائل أتمون النفس قلنا نعم لأن الله تعالى نص على ذلك فقال " كل نفس ذائقة الموت " وهذا الموت إنما هو فراقها للجسد فقط برهان ذلك قول الله تعالى " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " وقوله تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من إنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان وعلمها أتم ما كان وحياتها التي هي الحس والحركة الإرادية باقية بحسبها أكمل ما كانت قط قال عز وجل " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله ﷺ ليلة أسرى به عن الميمنة من آدم عليه السلام ومشئمته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فلنذكر الآن البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام
فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص فنفس زيد غير
نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون القائلون
أنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن تكون نفس المحب هي نفس المبغض وهي نفس
المحبوب وأن تكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ولكانت
نفس الخائف هي نفس المخوف منه ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء
به فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضها فصح
أنها جسم بيقين لا شك فيه وبرهان آخر هو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات
النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلاً ولا حظ فلو كانت النفس جوهراً
واحداً لا تتجزئ نفوساً لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستوياً لا تفاضل
فيه لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة فكان يجب أن يكون كلما علمه زيد
يعلمه عمرو لأنه نفسهما واحدة ندهم غير منقسمة ولا متجزئة فكان يلزم ولا
بد أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كل عالم في الدنيا لأن نفسهم واحدة لا
تنقسم وهي العالمة وهذا ما لا انفكاك منه البتة فقد صح بما ذكرنا ضرورة أن
نفس كل أحد غير نفس غيره وأن أنفس الناس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان
وإن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية التي يقع تحتها نفس جميع
الحيوان وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي
أجسام ولا يمكن غير ذلك البتة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن العالم كله
محدود معروف أجسام وأعراض ولا مزيد فمن ادعى أن ههنا جوهراً ليس جسماً ولا
عرضاً فقد ادعى ما لا دليل عليه البتة ولا يتشكل في العقل ولا يمكن توهمه
وما كان هكذا فهو باطل مقطوع على بطلانه وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن
النفس لا تخلوا من أن تكون خارج الفلك أو داخل الفلك فإن كانت خارج الفلك
فهذا باطل إذ قام البرهان على تناهي جرم العالم فليس وراء النهاية شيء ولو
كان وراءها شيء لم تكن نهاية فوجب ضرورة أنه ليس خارج الفلك الذي هو نهاية
العالم شيء لا خلاء ولا ملاء وإن كانت في الفلك فهي ضرورة أما ذات مكان
وأما محمولة في ذي مكان لأنه ليس في العالم شيء غير هذين أصلاً ومن ادعى أن
في العالم شيئاً ثالثاً فقد ادعى المحال والباطل وما لا دليل له عليه وهذا
لا يعجز عنه أحد وما كان هكذا باطل بيقين وقد قام الدليل على أن النفس
ليست عرضا لأنها عالمة حساسة والعرض ليس عالماً ولا حساساً وصح أنها حاملة
لصفاتها لا محمولة فإذ هي حاملة متمكنة فهي جسم لا شك فيه إذ ليس إلا جسم
حامل أو عرض محمول وقد بطل أن تكون عرضاً محمولاً فهي جسم حامل وبالله
تعالى التوفيق وأيضاً فلا تخلو النفس من أن تكون واقعة تحت جنس أولاً فإن
كانت لا واقعة تحت جنس فهي خارجة عن المقولات وليس في العالم شيء خارج عنها
ولا في الوجود شيء خارج عنها إلا خالقها وحده لا شريك له وهم لا يقولون
بهذا بل يوقعونها تحت جنس الجوهر فإذ هي واقعة تحت جنس الجوهر فإنا نسألهم
عن الجوهر الجامع للنفس وغيرها إله طبيعة أم لا فإن قالوا لا ندري ما
الطبيعة قلنا لهم إله صفة محمولة فيه لا يوجد دونها أم لا فلا بد من نعم
وهذا هو معنى الطبيعة وإن قالوا بل له طبيعة وجب ضرورة أن يعطى كل ما تحته
طبيعة لأن الأعلى يعطي لكل ما تحته اسمه وحدوده عطاء صحيحاً والنفس تحت
الجوهر فالنفس ذات طبيعة بلا شك وإذ صح أن لها طبيعة فكل ما له طبيعة فقد
حصرته الطبيعة وما حصرته الطبيعة فهو ذو نهاية محدودة وكل ذي نهاية فهو إما
حامل وإما محمول والنفس بلا شك حاملة ولأعراضها من الأضداد كالعلم والجهل
والذكاء والبلادة والنجدة والجبن والعدل والجور والقسوة والرحمة وغير ذلك
واقعاً تحت جنس فهو نوع من أنواع ذلك الجنس وكل نوع فهو مركب من جنسه
الأعلى العام له من أنواعه ومركب أيضاً مع ذلك من فصله الخاص به المميز له
من سائر الأنواع الواقعة معه تحت جنس واحد فإنه موضوع وهو جنسه القابل
لصورته وصورة غيره وله محمول وهو صورته التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع
ومحمول فهو مركب والنفس نوع للجوهر فهي مركبة من موضوع ومحمول وهي قائمة
بنفسها فهي جسم ولا بد.
قال أبو محمد: وهذه براهين ضرورية حسية عقلية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق وهذا قول جماعة من الأوائل ولم يقل ارسطاطاليس أن النفس ليست جسماً على ما ظنه أهل الجهل وإنما نفى أن تكون جسماً كدراً وهو الذي لا يليق بكل ذي علم سواه ثم لو صح أنه قال ها لكانت وهلة ودعوى لا برهان عليها وخطأ لا يجب اتباعه عليه وهو يقول في مواضع من كتبه اختلف أفلاطون والحق كلاهما إلينا حبيب غير أن الحق أحب إلينا وإذا جاز أن يختلف أفلاطون والحق فغير نكير ولا بديع أن يختلف ارسطاطاليس والحق وما عصم إنسان من الخطأ فكيف وما صح قط أنه قال ه.
قال أبو محمد: إنما قال أن النفس جوهر لا جسم من ذهب إلى أنه هي الخالقة لما دون الله تعالى على ما ذهب إليه بعض الصائبين ومن كني بها عن الله تعالى.
قال أبو محمد: وكلا القولين سخف وباطل لأن النفس والعقل لفظتان من لغة العرب موضوعتان فيها لمعنيين مختلفين فأحالتهما عن موضوعهما في اللغة سفسطة وجهل وقلة حياء وتلبيس وتدليس.
قال أبو محمد: وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسماً ممن ينتمي إلى الإسلام بزعمه فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة فأما القرآن فإن الله عز وجل قال " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " وقال تعالى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم " وقال تعالى " كل امرئ بما كسب رهين " فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة وقال تعالى " إن النفس لأمارة بالسوء " وقال تعالى " ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقال تعالى " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " فصح أن الأنفس منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فيعذب ومنها ما يرزق وينعم فرحاً ويكون مسروراً قبل يوم القيامة ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله قد تقطعت أوصالها وأكلتها السباع والطير وحيوان الماء فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان ولا شك في أن العرض لا يلقي العذاب ولا يحس فليست عرضاً وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به فصح ضرورة أنها جسم وأما من السنن فقول رسول الله ﷺ أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة وقوله ﷺ أنه رأي نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها وقوله عليه السلام أن نفس المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن وهذه صفة الأجسام ضرورة وأما عن الإجماع فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن نفس العباد منقولة بعد خروجها عن الأجساد إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب وهذه صفة الأجسام ومن خالف هذا فزعم أن الأنفس تعدم أو أنها تنتقل إلى أجسام أخر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال بخرقه الإجماع ومخالفته القرآن والسنن ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وقد ذكرنا في باب عذاب القبر أن الروح والنفس شيء واحد ومعني قول الله تعالى " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظماً ثم لحماً ثم أمشاجاً وليس الروح كذلك وإنما قال الله تعالى أمر إله بالكون كن فكان فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد وقد يقع الروح أيضاً على غير هذا فجبريل عليه السلام الروح الأمين والقرآن روح من عند الله وبالله تعالى التوفيق فقد بطل قولهم في النفس وصح أنها جسم ولم يبق إلا الكلام في الجزء الذي قال أبو محمد: ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الأجسام تنحل إلى أجزاء صغار لا يمكن البتة أن يكون لها جزء وأن تلك الأجزاء جواهر لا أجسام لها وذهب النظام وكل من يحسن القول من الأوائل إلى أنه لا جزء وإن دق إلا وهو يحتمل التجزي أبداً بلا نهاية وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزء وإن كل جزء انقسم الجسم إليه فهو جسم أيضاً وإن دق أبداً.
قال أبو محمد: وعمدة القائلين بوجود الجزء الذي لا يتجزأ خمس مشاغب وكلها راجعة بحول الله وقوته عليهم ونحن إن شاء الله تعالى نذكرها كلها ونتقصي لهم كل ما موهوا به ونرى بعون الله عز وجل بطلان جميعها بالبراهين الضرورية ثم نرى بالبراهين الصحاح صحة القول بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزأ أصلا كما فعلنا بسائر الأقوال والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فأول مشاغبهم أن قالوا أخبرونا إذا قطع الماشي المسافة التي مشي فيها فهل قطع ذا نهاية أو غير ذي نهاية فإن قلتم قطع غير ذي نهاية فهذا محال وإن قلتم قطع ذا نهاية فهذا قولنا.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن القوم أتوا من أحد وجهين إما أنهم لم يفهموا قولنا فتكلموا بجهل وهذا لا يرضاه ذو ورع ولا ذو عقل ولا حياء وإما أنهم لما عجزوا عن معارضة الحق رجعوا إلى الكذب والمباهتة وهذه شر من الأولى وفي أحد هذين القسمين وجدنا كل من ناظرناه منهم في هذه المسألة وهكذا عرض لنا سواء مع المخالفين لنا في القياس المدعين لتصحيحه فإنهم أيضاً أحد رجلين إما جاهل بقولنا فهو يقو لنا ما لا نقوله وليتكلم في غير ما اختلفنا فيه وإما مكابر ينسب إلينا ما لا نقوله مباهتة وجراءة على الكذب وعجزاً عن معارضة الحق من أننا ننكر اشتباه الأشياء وأننا ننكر قضايا العقول وأننا ننكر استواء حكم الشيئين فيما أوجبه لهما ما اشتبها فيه وهذا كله كذب علينا بل نقر بذلك كله ونقول به وإنما ننكر أن نحكم في الدين لشيئين بتحريم أو إيجاب أو تحليل من أجل أنهما اشتبها في صفة من صفاتهما فهذا هو الباطل البحث والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه.
ونقول على هذا السؤال الذي سألونا عنه أننا لم نرفع النهاية عن الأجسام كلها من طريق المساحة بل نثبتها ونعرفها ونقطع على أن كل جسم فله مساحة أبداً محدودة ولله الحمد وإنما نفينا النهاية عن قدرة الله تعالى على قسمة كل جزء وإن دق وأثبتنا قدرة الله تعالى على ذلك وهذا هو شيء غير المساحة ولم يتكلف القاطع بالمشي أو بالذرع أو بالعمل قسمة ما قطع ولا تجزئته وإنما تكلف عملاً أو مشى في مساحة معدومة بالميل أو بالذراع أو بالشبر أو الإصبع أو ما شابه ذلك وكل هذا له نهاية ظاهرة وهذا غير الذي نفينا وجود النهاية فيه فبطل إلزامهم والحمد لله كثيراً ثم نعكس هذا الاعتراض عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق نحن القائلون بأن كل جسم فله طول وعرض وعمق وهو محتمل للانقسام والتجزئ وهذا هو إثبات النهاية لكل جزء انقسم الجسم إليه من طريق المساحة ضرورة وأنتم تقولون أن الجسم ينقسم إلى أجزاء ليس لشيء منها عرض ولا طول ولا عمق ولا مساحة ولا يتجزأ وليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو شيء غيرها أصلاً وإن تلك الأجزاء ليس لشيء منها مساحة فلزمكم ضرورة إذ الجسم هو تلك الأجزاء ليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء وليس هو غيرها وكل جزء من تلك الأجزاء لا مساحة له إن الجسم لا مساحة له وهذا أمر يبطله العيان وإذا لم تكن له مساحة والمساحة هي النهاية في ذرع الأجسام فلا نهاية لما قطعه القاطع من الجسم على قولهم وهذا باطل والاعتراض الثاني إن قالوا لا بد أن يلي الجرم من الجرم الذي يليه جزء ينقطع ذلك الجرم فيه قالوا وهذا إقرار بجزء لا يتجزأ. قال أبو محمد: وهذا تمويه فاسد لأننا لم ندفع النهاية من طريق المساحة بل نقول أن لكل جرم نهاية وسطحاً ينقطع تماديه عنده وإن الذي ينقطع به الجرم إذا جزئ فهو متناه محدود ولكنه محتمل للتجزئ أيضاً وكل جزئ فذلك الجزء وهو الذي يلي الجرم الملاصق له بنهايته من جهته التي لاقاه منها لا ما ظنوا من أن حد الجرم جزء منه وهو وحده الملاصق للجرم الذي يلاصقه بل هو باطل بما ذكرنا لكن الجزء وهو الملاصق للجرم بسطحه فإذا جزء كان الجزء الملاصق للجرم بسطحه هو الملاصق له حينئذ بسطحه لا الذي خر عن ملاصقته وهكذا أبداً والكلام في هذا كالكلام في الذي قبله ولا فرق والاعتراض الثالث إن قالوا هل ألف أجزاء الجسم إلا الله تعالى فلا بد من نعم قالوا فهل يقدر الله على تفريق أجزاء حتى لا يكون فيها شيء من التأليف ولا تحتمل تلك الأجزاء التجزئ أم لا يقدر على ذلك قالوا فإن قلتم لا يقدر عجزتم ربكم تعالى وإن قلتم يقدر فهذا إقرار منكم بالجزء الذي لا يتجزأ.
قال أبو محمد: هذا هو من أقوى شبههم التي شغبوا بها وهو حجة لها عليهم والجواب أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أن سؤالكم سؤال فاسد وكلام فاسد ولم تكن قط أجزاء العالم متفرقة ثم جمعها الله عز وجل ولا كانت له أجزاء مجتمعة ثم فرقها الله عز وجل لكن الله عز وجل خلق العالم بكل ما فيه بأن قال له كن فكان أو بأن قال لكل جرم منه إذا أراد خلقه كن فكان ذلك الجرم ثم إن الله تعالى خلق جميع ما أراد جمعه من الأجرام التي خلقها مفترقة ثم جمعها وخلق تفريق كل جرم من الأجرام التي خلقها مجتمعة ثم فرقها فهذا هو الحق لا ذلك السؤال الفاسد الذي أجملتموه وأوهمتم به أهل الغفلة أن الله تعالى ألف العالم من أجزاء خلقها متفرقة وهذا باطل لأنه دعوى بلا برهان عليها ولا فرق بين من قال أن الله تعالى ألف أجزاء العالم وكانت متفرقة وبين من قال بل الله تعالى فرق العالم أجزاء وإنما كان جزأ واحداً وكلاهما دعوى ساقطة لا برهان عليها لا من نص ولا من عقل بل القرآن جاء بما قلناه نصاً قال تعالى " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " ولفظة شيء تقع على الجسم وعلى العرض فصح أن كل جسم صغر أو كبر وكل عرض في جسم فإن الله تعالى إذا أراد خلقه قال له كن فكان ولم يقل عز وجل قط أنه ألف كل جرم من أجزاء متفرقة فهذا هو الكذب على الله عز وجل حقاً فبطل ما ظنوا أنهم يلزموننا به ثم نقول لهم أن الله تعالى قادر على أن يخلق جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً قائماً بنفسه ولكنه تعالى لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه لأنهما مما رتبه الله عز وجل محالاً في العقول والله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئاً منها إلا أنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه وإنما يفعل ما يشاء وما سبق في علمه أنه يفعله فقط وبالله تعالى التوفيق.
ثم نعطف هذا السؤال نفسه عليهم فنقول لهم هل يقدر الله عز وجل على أن يقسم كل جزء وينقسم كل قسم من أقسام الجسم أبداً بلا نهاية أم لا فإن قالوا لا يقدر على ذلك عجزوا ربهم حقاً وكفروا وهو قولهم دون تأول ولا إلزام ولكنهم يخافون من أهل الإسلام فيملحون ضلالتهم بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ جملة.
وإن قالوا إنه تعالى قادر على ذلك صدقوا ورجعوا إلى الحق الذي هو نفس قولنا وخلاف قولهم جملة ونحن لا نخالفهم قط في أن أجزاء طحين الدقيق لا يقدر مخلوق في العالم على تجزئة تلك الأجزاء وإنما خالفناهم في أن قلنا نحن أن الله تعالى قادر على ما لا نقدر نحن عليه من ذلك وقالوا هم بل هو غير قادر على ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وقولهم في تناهي القدرة على قسمة الله تعالى الأجزاء هو القول بأن الله تعالى يبلغ من الخلق إلى مقدار ما ثم لا يقدر على الزيادة عليه ويبقي حسيراً عاجزاً تعالى الله عن هذا الكفر ولعمري أن أبا الهذيل شيخ المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ ليحن إلى هذا المذهب حنيناً شديداً وقد صرح بأن لما يقدر الله عليه كمالاً وآخراً لو خرج إلى الفعل لم يكن الله تعالى قادراً بعده على تحريك ساكن ولا تسكين متحرك ولا على فعل شيء أصلاً ثم تدارك كفره فقال ولا يخرج ذلك الآخر أبداً إلى حد الفعل.
قال أبو محمد: في قال له ما المانع من خروجه والنهاية حاصرة له والفعل قائم فلا بد مع طول الزمان من البلوغ إلى ذلك الآخر.
قال أبو محمد: نعوذ بالله من الضلال والاعتراض الرابع هو إن قالوا أيما أكثر أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلة وأيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الخردلتين قالوا فإن قلتم بل أجزاء الخردلتين وأجزاء الجبل صدقتم وأقررتم بتناهي التجزي وهو القول بالجزء الذي لا يتجزأ وإن قلتم ليس أجزاء الجبل أكثر من أجزاء الخردلة ولا أجزاء الخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة كابرتم العيان لأنه لا يحدث في الخردلة جزء إلا ويحدث في الخردلتين جزآن وفي الجبل أجزاء وادعوا علينا أننا نقول أن في كل جسم أجزاء لا نهاية لعدده وقالوا أن عمدة حجتكم على الدهرية هو هذا المعنى نفسه في إلزامكم إياهم وجوب القلة والكثرة في عدد الأشخاص وأوقات الزمان وإيجابكم أن كل ما حصره العدد فذو نهاية وإنكاركم على الدهرية وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لعددها قالوا ثم نقضتم كل ذلك في هذا المكان.
قال أبو محمد: هو الذي قلنا أنهم إما لم يفهموا كلامنا في هذه المسألة فقولونا ما لا نقوله بظنونهم الكاذبة وأما أنهم عرفوا قولنا فحرفوه قلة حياء واستحلال الكذب وجراءة على عمل الفضيحة لهم في كذبهم وعجزاً منهم عن كسر الحق ونصر الباطل فاعلموا أن كل ما نسبوه غلينا من قولنا أن من قطع مكاناً أو شيئاً بالمشي أو بالجملتين فإنما قطع ما لا نهاية له فباطل ما قلناه قط بل ما قطع إذا ذا نهاية بمساحته وزمانه وأما احتجاجنا على الدهرية بما ذكروا فصحيح هو حجتنا على الدهرية وأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذلك في هذا المكان فباطل والفرق بين ما قلناه من أنل كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وبين ما احتججنا به على الدهرية من إيجاب النهاية بوجود القلة والكثرة في أعداد الأشخاص والأزمان وإنكارنا عليهم وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لها بل هو حكم واحد وباب واحد وقول واحد ومعنى واحد وذلك أن الدهرية أثبتت وجود أشخاص قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لعددها ووجود أزمان قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وهكذا قلنا في كل جزء خرج إلى أحد الفعل فإنها متناهية العدد بلا شك ولم نقل قط أن أجزائه موجودة منقسمة لا نهاية لعددها بل هذا باطل محال ثم إن الله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص وفي الأزمان وفي قسمة الجزء أبداً بلا نهاية لكن كل ما خرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص أو الأزمان أو تجزئة الأجزاء فكل ذلك متناه بعدده إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ فليس شيئاً ولا هو عدداً ولا معدوماً ولا يقع عليه عدد ولا هو شخص بعد ولا زمان ولا جزؤ وكل ذلك عدم وإنما يكون جزء إذا جزئ بقطع أو برسم مميز لا قبل أن يجزئ وبهذا تتبين غناثة سؤالهم في أيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الجبر أو أجزاء الخردلتين لأن الجبل إذا لم يجزأ والخردلة إن لم تجزأ والخردلتان إذا لم تجزئا فلا أجزاء لها أصلاً بعد بل الخردلة جزء واحد والجبل جزء واحد والخردلتان كل واحدة منهما جزء فإذا قسمت الخردلة على سبعة أجزاء وقسم الجبل جزأين وقسمت الخردلتان جزأين جزأين فالخردلة الواحد بيقين أكثر أجزاء من الجبل والخردلتين لأنها صارت سبعة أجزاء ولم يصر الجبل والخردلتان إلا ستة أجزاء فقط فلو قسمت الخردلة ستة أجزاء لكانت أجزاؤها وأجزاء الجبل والخردلتين سواء ولو قسمت الخردلة خمسة أجزاء وكانت أجزاء الجبل والخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقع التجزيء في شيء إلا إذا قسم لا قبل ذلك فإن كانوا يريدون في أيهما يمكننا التجزئة أكثر في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحدة فهذا ما لا شك فيه أن التجزيء أمكن لنا في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحد لأن الخردلة الواحدة عن قريب تصغر أجزاؤها حتى لا نقدر نحن على قسمتها ويتمادى لنا الأمر في الجبل كثيراً حتى أنه يفنى عمر أحدنا قبل أن يبلغ تجزئته إلى أجزاء تدق عن قسمتنا وأما قدرة الله عز وجل على قسمة ما عجزنا نحن عن قسمته من ذلك فباقية غير متناهية وكل ذلك عليه هين سواء ليس بعضه أسهل عليه من بعض بل هو قادر على قسمة الخردلة أبداً بلا نهاية وعلى قسمة الفلك كذلك ولا فرق وبالله تعالى التوفيق ونزيد بياناً فنقول أن الشيء قبل أن يجزأ فليس متجزئاً فإذا جزء بنصفين أو جزأين فهو جزءان فقط فإذا جزء على ثلاثة أجزاء فقط فهو ثلاثة أجزاء وهكذا أبداً وأما من قال أو ظن أن الشيء قبل أن ينقسم وقبل أن يتجزأ أنه منقسم بعد ومتجزئ بعد فوسواس وظن كاذب لكنه محتمل الانقسام والتجزؤ وكل ما قسم وجزأ فكل جزء ظهر منه فهو معدود متناه وكذلك كل جسم فطوله وعرضه متناهيان بلا شك والله تعالى قادر على الزيادة فيهما أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما زاده تعالى في ذلك وأخرجه إلى حد الفعل فهو متناه ومعدود ومحدود وهكذا أبداً وكذلك الزيادة في أشخاص العالم وفي العدد فإن كل ما خرج إلى حد الفعل من الأشخاص ومن الأعداد فذو نهاية والله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص أبداً بلا نهاية والزيادة في العدد ممكنة أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما خرج من الأشخاص والأعداد إلى الفعل صحبته النهاية ولا بد ثم نعكس هذا السؤال عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أتفضل عندكم قدرة الله تعالى على قسمة الجبل على قدرته على قسمة الخردلة وهل تأتى حال يكون الله فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة أم لا فإن قالوا بل قدرة الله تعالى على قسمة الجبل أتم من قدرته على قسمة الخردلة وأقروا بأنه تأتى حال يكون الله تعالى فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة كفروا وعجزوا ربهم وجعلوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية وهذا كفر مجرد وإن أبوا من هذا وقالوا إن قدرة الله تعالى على قسمة الجبل والخردلة سواء وأنه لا سبيل إلى وجود حال يقدر الله تعالى فيها على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الخردلة صدقوا ورجعوا إلى قولنا الذي هو الحق وما عداه ضلال وباطل والحمد لله رب العالمين والاعتراض الخامس هو أن قالوا هل لأجزاء الخردلة كل أم ليس لها كل وهل يعلم الله عدد أجزائها أم لا يعلمه فإن قلتم لا كل لها نفيتم النهاية عن المخلوقات الموجودات وهذا كفر وإن قلتم إن الله تعالى لا يعلم عدد أجزائها كفرتم وإن قلتم أن لها كلاً وإن الله تعالى يعلم أعداد أجزائها أقررتم بالجزء الذي لا يتجزأ.
قال أبو محمد: وهذا تمويه لائح ينبغي التنبيه عليه لئلا يجوز على أهل الغفلة وهو أنهم أقحموا لفظة كل حيث لا يوجد كل وسألوا هل يعلم الله تعالى عدد ما لا عدد له وهم في ذلك كمن سأل هل يعلم الله تعالى عدد شعر لحية الأحلس أم لا وهل يعلم جميع أولاد العقيم أم لا وهل يعلم كل حركات أهل الجنة والنار أم لا فهذه السؤالات كسؤالهم ولا فرق وجوابنا في ذلك كله أن الله عز وجل إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علم الشيء على ما هو عليه فقد علمه حقاً وأما من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فلم يعلمه بل جهله وحاشا لله من هذه الصفة فما لا كل له ولا عدد له فإنما يعمله الله عز وجل أن لا عدد له ولا كل وما علم الله عز وجل قط عدداً ولا كلاً إلا لما له عدد وكل لا لما لا عدد له ولا كل وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد شعر لحية الأطلس ولا علم قط ولد العقيم فكيف أن يعرف لهم كلاً وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد أجزاء الجبل ولا الخردلة قبل أن يجزئا لأنهما لا جزء لهما قبل التجزئة وإنما علمهما غير متجزئين وعلمهما محتملين للتجزيء فإذا جزئا علمهما حينئذ متجزئين وعلم حينئذ عدد أجزائهما ولم يزل تعالى يعلم أنه يجزئ كل ما لا يتجزأ ولم يزل يعلم عدد الأجزاء التي لا تخرج في المستأنف إلى حد الفعل ولم يزل يعلم عدد ما يخرج من الأشخاص بخلقه في الأبد إلى حد الفعل أو لم يزل يعلم أنه لا أشخاص زائدة على ذلك ولا أجزاء لما لم ينقسم بعد وكذلك ليس للخردلة ولا للجبل قبل التجزيء أجزاء أصلاً وإذ ذلك كذلك فلا كل هاهنا ولا بعض فهذا بطلان سؤالهم والحمد لله رب العالمين ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الشخص الفرد من خردلة أو وبرة أو شعرة أو غير ذلك إذا جزأنا كل ذلك جزئين أو أكثر متى حدثت الأجزاء أحين جزئت أم قبل أن تجزء فإن قالوا قبل أن تجزئ ناقضوا أسمج مناقضة لأنهم أقروا بحدوث أجزاء كانت قبل حدوثها وهذا سخف وإن قالوا إنما حدثت لها الأجزاء حين جزئت لا قبل ذلك سألناهم متى علمها الله تعالى متجزئة حين حدث فيها التجزيء أم قبل أن يحدث فيها التجزيء فإن قالوا ب حين حدث فيها الجزيء صدقوا وأبطلوا قولهم في أجزاء الخردلة وإن قالوا بل علم أنها متجزئة وأن لها أجزاء قبل حدوث التجزيء فيها جهلوا ربهم تعالوا إذا خبروا أنه يعلم الشيء بخلاف ما هو قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به لم ندع لهم منه شيئاً إلا وقد أوردناه وبينا أنه كله لا حجة لهم في شيء منه وأنه كله عائد عليهم وحجة لنا والحمد لله رب العالمين ثم نبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد البراهين الضرورية على أن كل جسم في العالم فإنه متجزئ محتمل للتجزئة وكل جزء من جسم فهو أيضاً جسم محتمل للتجزيء وهكذا أبداً وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: يقال لهم وبالله تعالى نستعين أخبرونا عن هذا الجزء الذي قلتم أنه لا يتجزأ أهو في العالم أم ليس في العالم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا ليس هو في العالم صدقوا وأبطلوه إلا أنهم يلزمهم قول فاحش وهو أنهم يقولون أن جميع العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ والكل ليس هو شيئاً غير تلك الأجزاء فإن كانت تلك الأجزاء ليست في العالم فالعالم عدم ليس في العالم وهذا تخليط كما ترى وإن قالوا بل هو في العالم قلنا لهم لا يخلوا إن كان في كرة العالم من أن يكون إما قائماً بنفسه حاملاً وإما أن يكون محمولاً غير قائم بنفسه لا بد ضرورة من أحد الأمرين إذ ليس العالم كله إلا على هذين القسمين فإن كان محمولاً غير قائم بنفسه فهو عرض من الأعراض وإن كان حاملاً قائماً بنفسه ذا مكان فهو جسم وثم يقال لهم أخبرونا عن الجزء الذي ذكرتم أنه لا يتجزأ وهو على قولكم في مكان لأنه بعض من أبعاض الجسم هل الملاقي منه للمشرق هو الملاقي للمغرب أم غيره وهل المحازي منه للسماء هو المحازى منه للأرض أم هو غيره فإن قالوا كل ذلك واحد والملاقي منه للمشرق هو الملاقي منه للمغرب والمحازى للسماء هو المحازى منه للأرض أتوا بإحدى العظائم وجعلوا جهة المشرق منه هي جهة المغرب وجعلوا السماء والأرض منه في جهة واحدة وهذا حمق لا يبلغه إلا الموسوس ومكابرة للعيان لا يرضاها لنفسه سالم البنية وإن قالوا بل الملاقي منه للمشرق هو غير الملاقي منه للمغرب وأن السماء والأرض منه في جهتين متقابلتين فوق وأسفل صدقوا وهكذا جهة الجنوب والشمال فإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح أنه ذو جهات ست متغايرة وهذا إقرار منهم بأنه ذو أجزاء إذ قطعوا بأن الملاقي منه للمغرب غير الملاقى منه للمشرق ومن للتبعيض وبطل قولهم من قرب والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإن أرادوا إلزامنا مثل هذا في العرض قلنا ليس للعرض جهة ولا له مكان ولا يقوم بنفسه ولا يحاذى شيئاً وإنما يحاذى الأشياء حامل العرض لا العرض إذ لو ارتفع العرض لبقي حامله مالئاً لمكانه كما كان محاذياً من جميع جهاته ما كان يحاذى حين حمله للعرض سواء سواء ولو ارتفع في قولكم الجزاء الذي لا يتجزأ لبقي مكانه خالياً منه وقد أوضحنا أن عرضين وأعراضاً تكون في جسم واحد في جهة واحدة منه وهم يختلفون في أن جزئين كل واحد منهما لا يتجزأ فلا يمكن البتة أن يكونا جميعاً في مكان واحد بل لكل واحد منهما عندهم مكاناً غير مكان الآخر وبرهان آخر وهو أنهم يقولون أن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا أضفتم إلى الجزء الذي لا يتجزأ عندكم جزءاً آخر مثله لا يتجزأ أليس قد حدث لهما طول فلا بد من قولهم نعم لا يختلفون في ذلك ولو أنهم قالوا لا يحدث لهما طول للزمهم مثل ذلك في إضافة جزء ثالث ورابع وأكثر حتى يقولوا أن الأجسام العظام لا طول لها ويحصلوا في مكابرة العيان فنقول لهم إذا قلتم أن جزءاً لا يتجزأ لا طول له إذا ضم إليه جزء آخر لا يتجزأ ولا طول له فأيهما يحدث له طول فقولوا لنا هل يخلو هذا الطول الحادث عندكم من أحد ولثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يكون هذا الطول لأحدهما دون الآخر أو لا لواحد منهما أو لكليهما فإن قلتم ليس هذا الطول لهما ولا لواحد منهما فقد أوجبتم طولاً لا لطويل وطولاً قائماً بنفسه والطول عرض والعرض لا يقوم بنفسه وصفة والصفة لا يمكن أن توجد إلا في موصوف بها ووجود طول لا لطويل مكابرة ومحال وإن قلتم أن ذلك الطول هو لأحد الجزأين دون الآخر فقد أحلتم وأتيتم بما لا شك بالحس وضرورة العقل في بطلانه ولزمكم أن الجزء الذي لا يتجزأ له طول وإذا كان له طول فهو بلا شك يتجزأ وهذا ترك منكم لقولكم مع أنه أيضاً محال لأنه يجب من هذا أن يتجزأ ولا يتجزأ وإن قلتم أن ذلك الطول للجزأين معاً صدقتم وأقررتم بالحق في أن كل جزء منهما فله حصته من الطول والحصة من الطول طول بلا شك وإذا كان كل واحد منهما له طول فلكل واحد منهما له طول فكل واحد منهما يتجزأ وهذا خلاف قولكم أنه لا يتجزأ وهذا برهان ضروري أيضاً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر.
قال أبو محمد: ونقول لهم أيما أطول جزآن لا يتجزأ كل واحد منهما وقد ضم أحدهما إلى الآخر ثم أحدهما غير مضموم إلى الآخر فلا يجوز أن يقول أحد إلا أن الجزأين المضمومين أطول من أحدهما غير مضموم إلى الآخر فإذ ذلك كذلك فمن المحال الممتنع الباطل أن يقال في شيء هذا أطول من هذا إلا وفي الآخر طول دون طول ما هو أطول منه فقد صح ضرورة أن الطول موجود لكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ وإذا كان له طول فهو منقسم بلا خلاف من أحد منا ومنهم وهكذا القول في عرضهما أن ضم أحدهما إلى الآخر وفي عمقهما كذلك ولا بد من أن يكون لكل واحد منهما حصة من العرض والعمق وإذ ذاك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق وإذ ذلك كذلك فهو جسم يتجزأ ولا بد وهذا أيضاً برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق.
وقد رام أبو الهذيل التخلص من هذا الإلزام فبعد ذلك عليه لأنه رام محالاً فقال أن الطول الحادث للجزأين عند اجتماعهما إنما هو كالاجتماع الحادث لهما ولم يكن لهما ولا لأحدهما إذ كانا منفردين.
قال أبو محمد: وهذا تمويه ظاهر لأن الاجتماع هو ضم أحدهما إلى الآخر نفسه ليس هو شيئاً آخر ولم يكونا قبل الضم والجمع مضمومين ولا مجتمعين وليس معنى الطول والعرض والعمق كذلك بل هو شيء آخر غير الضم والجمع وإنما هو صفة للطويل مضموماً كان إلى غيره أو غير مضموم ولا يوجب الجمع والضم طولاً لم يكن واجباً قبل الضم والجمع فلم يزد أبو الهذيل على أن قال لما اجتمعا صارا مجتمعين وصارا طويلين وهذه دعوى فاسدة ونظر منحل لأن قوله لما اجتمعا صارا مجتمعين صحيح لا شك فيه وقوله وصارا طويلين دعوى مجردة من الدليل جملة وما كان هكذا فهو باطل وأيضاً فإن الاجتماع لما حدث بينهما بطل معنى آخر كان موجوداً فيهما وهو الافتراق الذي هو ضد الاجتماع فأخبرونا إذا حدث الطول بزعمكم فأي شيء هو المعنى الذي ذهب بوجود الطول وعاقبة الطول ولا سبيل لهم إلى وجوده فصح أن الطول كان موجوداً في كل جزء على انفراده وكذلك العرض والعمق ثم لم اجتمعا زاد الطول والعرض والعمق وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الذي تشهد له الحواس والمشاهدة والعقل والحمد لله رب العالمين وبرهان آخر وهو أن الجرم إن كان أحمر فكل جزؤ من أجزائه أحمر بلا شك فإن قالوا ليس أحمر قلنا لهم فلعله أخضر أو أصفر أو غير ذي لون وهذا عين المحال لأن الكل قد بينا أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فلو كان لون أجزائه غير لونه كله لكان لونه غير لونه وهذا محال فإذ لا شك فيما ذكرنا فالجزؤ الذي يدعون أنه لا يتجزأ هو ذو لون بلا شك وإذ هو ذو لون فهو جسم لا يعقل غير ذلك فهو يتجزى.
قال أو محمد: وقالت الأشعرية ههنا كلاما ظريفاً وهو أنهم قالوا هو ذو لون واحد.
قال أبو محمد: كل ملون فهو ذو لون واحد لا ذو ألوان كثيرة إلا أن يكون أبلق أو موشى برهان آخر أن وجود شيء في العالم قائم بنفسه ليس جسماً ولا عرضاً ولا قابلاً للتجزئ ولا طول ولا عرض ولا عمق فهو محال ممتنع إذ هذا المذكور ليس هو شيئاً غير الباري تعالى وجل تعالى أن يكون له في العالم شبه وبهذا بان عز وجل عن مخلوقاته ولم يكن له كفواً أحد وليس كمثله شيء برهان آخر.
قال أو محمد: كل شيء يحتمل أن يكون له أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يتجزأ إلى أٌل منها هذا ما لا تختلف العقول والإحساس فيه كشيء احتمل أن يقسم على أربعة أقسام فلا شك أنه يحتمل أن يقسم على ثلاثة وعلى اثنين وهكذا في كل عدد ومن دافع في هذا فإنما يدافع الضرورة ويكابر العقل فلوا أقمت خطا من ثلاثة أجزاء كل جزء منها لا يتجزأ على قولهم أو يعمل ذلك الخط من عشرة أجزاء وكذلك ومن ألف جزءٍ كذلك أو مما زاد فإنه لا يختلف أحد في أن الخط الذي هو من ثلاثة أجزاء فإنه ينقسم أثلاثاً في موضعين وأن الذي هو أربعة أجزاء فإنه ينقسم أرباعاً في ثلاثة مواضع وأن الذي من ألف جزؤ فإنه ينقسم أعشاراً وبنصفين وإذ لا شك في هذا فبيقين لا محيد عنه يدري كل ذي حس سليم ولو أنه عالم أو جاهل أن ما انقسم أثلاثاً فإنه ينقسم نصفين مستويين وما انقسم أرباعاً فإنه ينقسم أثلاثاً مستوية وإن ما كان من الخطوط فله أعشار وأخماس ونصف وأثلاث وأسداس وأسباع متساوية فإذ لا شك في هذا فإن القسمة لا بد أن تقع في نصف جزءٍ منها أو في أقل من نصفه فصح أن كل جسم فهو يتجزأ ضرورة وإن الجزء الذي لا يتجزأ باطل معدوم من العالم وهذا ما مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر.
قال أبو محمد: بلا شك نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان أبداً ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية وأنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين قام منهما مربع بلا شك فإذا أخرجت من زاوية ذلك المربع خطاً منحدراً من هنالك إلى الخط الأسفل فإن تلك الخطوط المخرجة من الضلع الذي ذكرنا وتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لا تمر مع الخط الأعلى أبداً لأنها غير موازية له فإذ ذلك كذلك فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية برهان آخر.
قال أبو محمد: وبالضرورة ندري أن كل مربع متساوي الأضلاع فإن الخط القاطع من الزاوية العليا إلى الزاوية السفلى التي لا يوازيها يقوم منه في المربع مثلثان متساويان وأنه لا شك أطول من كل ضلع من أضلاع ذلك المربع على انفراده فنسألهم عن مائة جزءٍ لا يتجزأ رتبت متلاصقة عشرة عشرة فبالضرورة نجد فيها ما ذكرنا فبيقين نعلم حينئذ أن كل جزءٍ من الأجزاء المذكورة لولا أن له طولاً وعرضاً لما كان الخط المار بها القاطع للمربع القائم منها على مثلثين متساويين أطول من الخط المار بكل جهة من جهات ذلك المربع على استواء وموازاة للخطوط الأربعة المحيطة بذلك المربع وهو أطول منه بلا شك فصح ضرورة أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وأن ما له طول وعرض فهو متجزء بلا شك فصح أيضاً بما ذكرنا أن كل جزءٍ مر عليه الخط المذكور فقد انقسم برهان آخر وأيضاً فإننا لو أقمنا خطاً من أجزاء لا تتجزأ على قولهم مستقيماً ثم أدرناه حتى يلتقي طرفاه ويصير دائرة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الخط إذا أدير حتى يلتقي طرفاه فإن ما قابل من أجزائه مركز الدائرة أضعف مما يقابل منها خارج الدائرة فإذ ذلك كذلك فهذا لازم في هذا الخط المدار بلا شك وإذ لا شك في هذا فقد فضل أحد طرفي الجزء الذي لا يتجزأ عندهم فضلة على طرفه الآخر وهكذا كل جزءٍ من تلك الأجزاء بلا شك فصح ضرورة أنه محتمل للانقسام ولا بد وبالله تعالى التوفيق برهان آخر نسألهم عن دائرة قطرها أحد عشر جزءاً لا يتجزأ كل واحد منها عندهم أو أي عدد شئت على الحساب فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط ماراً على مركزها لا يقع البتة إلا في أنصاف تلك الأجزاء فصح ضرورة أنها لا تتجزأ ولو لم يمر ذلك الخط على أنصافها لما قسم الدائرة بنصفين وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أن نسألهم عن الجزء الذي لا يتجزأ الذي يحققونه إذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية هل له حجم زائد على سطحها أم لا حجم له زائد على سطحها فإن قالوا لا حجم له زائداً على سطحها أعدموه ولم يجعلوا له مكاناً ولا جعلوه متمكناً أصلاً فنسألهم عن جزئين جعلا كذلك فلا بد من قولهم أن لهما حجماً فنسألهم عن ذلك الحجم ألهما معاً أم لأحدهما فأي ذلك قالوا أثبتوا ولا بد الحجم لهما وللجزء الذي هو أحدهما وإذا كان للجزء الذي لا يتجزأ حجم زائد فالذي لا شك فيه أن له ظلاً وإذا صح يقيناً أن له ظلاً فلا شك في أن الظل يزيد وينقص ويمتد ويتقلص ويذهب إذا سامتته الشمس فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن ظله ينقص حتى يكون أقل من قدره وإذ ذلك فقد ظهر ووجب أن له تجزياً ومقداراً وبرهان آخر وهو أننا نسألهم عن جزؤ لا يتجزأ من الحديد أو من الذهب وجزؤ لا يتجزأ من خيط قطن هل ثقلهما ووزنهما سواء أم الذي من الذهب أو الحديد أثقل من الذي من القطن فإن قالوا ثقلهما ووزنهما سواء كابروا ولزمهم هذا في ألف جزؤ كذلك من الذهب أنهما ليستا أثقل من ألف جزؤ من القطن مجتمعة كانت الأجزاء أو متفرقة وهذا جنون ومكابرة وأن قالوا بل الذي من الذهب أوزن وأثقل صدقوا وأوجبوا أن له تجزياً يتفاضل الوزن ضرورة ولا بد.
قال أبو محمد: فهذه براهين ضرورية قاطعة بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وأن جزاء لا يتجزأ ليس في العالم أصلاً ولا يمكن وجوده بل هو من المحال الممتنع وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أما أبو الهذيل فخلط في هذا الباب وحق لمن رام نصر الباطل أن يخلط فقال وأنه الجزؤ الذي لا يتجزأ ذو حركة وسكون يتعاقبان عليه وأن يشغل مكاناً لا يسع فيه معه غيره وأنه أقرب إلى السماء من مكانه الذي هو عليه من الأرض وهذا غاية التناقص إذ ما كان هكذا فله مساحة بلا شك وهو ذو جهات ست فللمساحة أجزاء من نصف وثلث وأقل وأكثر وما كان ذا جهات فالذي منه في كل جهة غير الذي منه في الجهة الأخرى بلا شك وما كان هذا فهو محتمل للتجزي بلا شك وما عدا هذا فوسواس نعوذ بالله منه.
قال أبو محمد: في تخليطهم هذا اختلافاً ظريفاً أيضاً فأجمعوا أنه إذا ضم جزؤ لا يتجزء إلى جزؤ لا يتجزأ فصار اثنين فقد حدث لهما طول ثم اختلفوا متى يصير جسماً له طول وعرض وعمق فقال بعضهم إذ صار جزئين صار جسماً وهو قول الأشعرية وقال بعضهم إذا صارا أربعة أجزاء وقال بعضهم بل إذا صارا ستة أجزاء واتفقوا على أنه إذا صارا ثمانية أجزاء فقد صار جسماً له طول وعرض وعمق وكل هذا تخليط ناهيك به وجهل شديد كان الأولى بأهله أن يتعلموا قبل أن يتكلموا بهذه الحماقات برهان ذلك أنهم لم يختلفوا أنهم إذا صفوا أربعة أجزاء لا يتجزأ وتحتها أربعة أجزاء لا يتجزأ فإنه قد صار عندهم الجميع من هذه الأجزاء جسماً طويلاً عيضاً عميقاً.
قال أبو محمد: وهذا الذي طابت نفوسهم عليه وأنست عقولهم إليه في الثمانية وسهل على بعضهم دون بعض في ثلاثة أجزاء تحتها ثلاثة أجزاء وفي جزئين تحتها جزآن ومنعوا كلهم من ذلك في جزؤ على جزؤ حاشا الأشعرية فإنه بعينه موجود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة في جزؤ على جزؤ على جزؤ سواء سواء بعينه وذلك أن أربعة أجزاء على أربعة جزاء فإنما الحاصل منها جزؤ على جزء فقط من كل جهة فإذا جعلوا الأربعة على الأربعة طولاً فإنما جعلوه في جزؤ إلى جنب جزؤ كذلك فعلوا في العرض وكذلك فعلوا في العمق وإذ هو كذلك والطول عندهم يوجد في جزء إلى جنب جزء والعرض يوجد جنب الطول لأن العرض لا يكون أكثر من الطول أصلاً والعمق موجود فيهما أيضاً فظهر أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وعمقاً قال أبو محمد: فإذا قد بطل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوه أنه جوهر لا جسم ولا عرض فقد صح أن العالم كله حامل قائم بنفسه ومحمول لا يقوم بنفسه ولا يمكن وجود أحدهما متخلياً فالمحمول هو العرض والحامل هو الجوهر وهو الجسم سمه كيف شئت ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما تعالى وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقال هؤلاء الجهال أن العرض لا يبقى وقتين وأنه لا يحمل عرضاً.
قال أبو محمد: وقد كلمناهم في هذا وتقرينا كتبهم فما وجدنا لهم حجة في هذا أصلاً أكثر من أن بعضهم قال لو بقي وقتين لشغل مكاناً.
قال أبو محمد: وهذه حجة فقيرة إلى حجة ودعوى كاذبة نصر بها دعوى كاذبة ولا عجب أكثر من هذا ثم لو صحت لهم للزمهم هذا بعينه فيما جوزوه من بقاء العرض وقتاً واحداً ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لو بقي العرض وقتاً واحداً لشغل مكاناً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا فرق في اقتضاء المكان بين بقاء وقت واحد وبين بقاء وقتين فصاعداً فإن أبطلوا بقاءه وقتاً لزمهم أنه ليس باقياً أصلاً وإذا لم يكن باقياً فليس موجوداً أصلاً وإذ لم يكن موجوداً فهو معدوم فحصلوا من هذا التخليط على نفي الأعراض ومكابرة العيان ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل يبقى وقتين ولا يبقى ثلاثة أوقات إذ لو بقي ثلاثة أوقات لشغل مكاناً وكل هذا هوس وليس من أجل البقاء وجب اقتضاء الباقي المكان لكن من أجل أنه طويل عريض عميق فقط ولا مزيد وقد قال بعضهم أن الشيء في حين خلق الله تعالى له ليس باقياً ولا فانياً وهذه دعوى في الحمق كما سلف لهم ولا فرق وهي مع ذلك لا تعقل ولا يتمثل في الوهم أن يكون في الزمان أو في العالم شيء موجود ليس باقياً ولا فانياً.
قال أبو محمد: ولا عجب أعجب من حمق من قال أن بياض الثلج وسواد القار وخضرة البقل ليس شيء منها الذي كان آنفاً بل يفني في كل حين ويستعيض ألف ألف بياض وأكثر وألف ألف خضرة وأكثر هذه دعوى عارية من الدليل إلا أنها جمعت السخف مع المكابرة.
قال أبو محمد: والصحيح من هذا هو ما قلناه ونقوله أن الأعرض تنقسم أقساماً فمنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله لإنفساد ما هو فيه لو أمكن ذلك كالصورة الكلية أو كالطول والعرض والعمق ومنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بإنفساد حامله كالاسكار في الخمر ونحو ذلك فإنها إن لم تكن مسكرة لم تكن خمراً وهكذا كل صفة يجدها ما هي عليه ومنها ما لا يزول إلا بفساد حامله إلا أنه لو توهم زائلاً لم يفسد حامله كزرق الأزرق وفطس الأفطس فلو زالا لبقي الإنسان إنساناً بحسبه ومنها ما يبقى مدداً طوالاً وقصاراً وربما زايل ما هو فيه كسواد الشعر وبعض الطعوم والخشونة والاملاس في بعض الأشياء والطيب والنتن في بعضها والسكون والعلم وكبعض الألوان التي تستحيل ومنها ما يسرع الزوال كحمرة الخجل وكمدة الهم وليس من الأعراض شيء يفني بسرعة حتى لا يمكن أن يضبط مدة بقائه إلا الحركة فقط على أنها بضرورة العقل والحسن ندري أن حركة الجزء من الفلك التي تقطع بنصفين من شرق إلى غرب أسرع من حركة الجزء منه الذي حوالي القطبين لأن كل هذين الجزأين يرجع إلى مكانه الذي بدأ منه في أربع وعشرين ساعة وبين دائريهما في الكبر ما لا يكون مساحة خط دائرة أو خط مستقيم أكثر منه في العالم وبيقين يدري أن حركة المذعورة في طيرانها أسرع من حركة السلحفاة في مشيها وأن حركة المنساب في الحدور أسرع من حركة الماء الجاري في مسيل النهر وأن حركة العصر في الجري أسرع من حركة الماشي فصح يقيناً أن في خلال الحركات أيضاً بقاء إقامة يتفاضل في مدته لأن الحركات كلها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان فللمتحرك مقابلة ولا بد لكل جرم مر عليه ففي تلك المقابلات يكون التفاضل في السرعة أو في البطئ إلا أنه لا يحس أجزاؤه ولا تضبط دقائقه إلا بالعقل فقط الذي به يعرف زيادة الظل والشمس ولا يدرك ذلك بالحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما فإنه حينئذ يعرف بحس البصر كما لا يدرك بالحواس نماء النامي إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكما يعرف بالعقل لا بالحس أن لكل خردلة جزءاً من الأث قال فلا يحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكذلك الشبع والري وكثير من أعراض العالم فتبارك خالق ذلك هو الله أحسن الخالقين وأما قولهم أن العرض لا يحمل العرض فكلام فاسد مخالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس ولإجماع جميع ولد آدم لأننا لا نختلف في أن نقول حركة سريعة وحركة بطيئة وحمرة مشرقة وخضرة أشد من خضرة وخلق حسن وخلق مسيء وقال تعالى " إن كيدكن عظيم " وقال تعالى " فصبر جميل " وحسبك فساداً بقول أدى إلى هذا ومن أحال على العيان والحس والمعقول وكلام الله تعالى فقد فاز قدحه وخسرت صفقة من خالفه.
قال أبو محمد: ولسنا نقول أن عرضاً يحمل عرضاً إلى ما لا نهاية له بل هذا باطل ولكن كما وجد وكما خلق الباري تعالى ما خلق ولا مزيد وما عدا هذا فرقة دين وضعف عقل وقلة حياء ونعوذ بالله من هذه الثلاث وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الكلام في المعارف
قال أبو محمد: اختلف الناس في المعارف فقال قائلون المعارف كلها باضطرار إليها وقال آخرون المعارف كلها باكتساب لها وقال آخرون بعضها باضطرار وبعضها باكتساب.
قال أبو محمد: والصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا ليس عاقلاً لا معرفة له قال أو محمد: فحركاته كلها طبيعية كأخذه الثديين حين ولادته وتصرفه تصرف البهائم على حسبها في تألمها وطربها حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة وأنست بما صارت فيه وسكنت إليه وبدت رطوباته تجف بدأت بتمييز الأمور في الدار التي صارت فيها فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكر واستعمال الحواس في الاستدلال وأحدث الله لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصله إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء وأن جسماً واحداً لا يكون في مكانين وأنه لا يكون قاعداً قائماً معاً وهو إن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقتضي تيقنه كل ما ذكرنا وعرف أولاً صحة وما أدرك بحواسه ثم انتجت له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو بعد فكل ما ثبت عندنا ببرهان وإن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا فمعرفة النفس به اضطرارية لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر فإذ هذا لا شك فيه فالمعارف كلها باضطرار إذ ما لم يعرف بيقين فإنما عرف بظن وما عرف ظناً فليس علماً ولا معرفة هذا ما لا شك فيه إلا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب وهذا الطلب هو الاستدلال ولو شاء أن لا يستدل لقدر على ذلك فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط وأما ما كان مدركاً بأول العقل وبالحواس فليس عليه استدلال اًلاً بل من قبل هذه الجهات يبتدي كل أحد بالاستدلال وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل وحد العلم بالشيء وهو المعرفة به أن نقول العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه به وارتفاع الشكوك عنه ويكون ذلك إما بشهادة الحواس وأول العقل وأما ببرهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس أو أول العقل وإما بإنفاق وقع له في مصادفة اعتقاد الحق خاصة بتصديق ما افترض الله عز وجل عليه اتباعه خاصة دون استدلال وأما علم الله تعالى فليس محدوداً أصلاً ولا يجمعه مع علم الخلق حد فلا حس ولا شيء أصلاً وذهبت الأشعرية إلى أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حد واحد.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش إذ من الباطل أن يقع ما لم تزل النهايات وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى على ما بيننا قبل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: قالت طوائف منهم الأشعرية وغيرهم من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل لكن بتقليد أو تميل بإرادته فليس عالماً به ولا عارفاً به ولكنه معتقد له وقالوا كل علم ومعرفة اعتقاد وليس كل اعتقاد علماً ولا معرفة لأن العلم والمعرفة بالشيء إنما يعبر بهما عن تيقن صحته قالوا وتيقن الصحة لا يكون إلا ببرهان قالوا وما كان بخلاف ذلك فإنما هو ظن ودعوى لا تيقن بها إذ لو جاز أن يصدق قول بلا دليل لما كان قول أولى من قول ولكانت الأقوال كلها صحيحة على تضادها ولو كان ذلك لبطلت الأقوال ولبطلت الحقائق كلها لأن كل قول يبطل كل قول سواه فلو صحت الأقوال كلها لبطلت كلها لأنه لو كان يكون كل قول صادقاً في إبطاله ما عداه. قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق إن التسمية والحكم ليس إلينا وإنما هما إلى خالق اللغات وخالق الناطقين بها وخالق الأشياء ومرتبها كما شاء لا إله إلا هو قال عز وجل منكراً على من سمى من قبل نفسه " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم فنهي الله عز وجل كل أحد عن أن يقول ما ليس له به علم ووجدناه عز وجل يقول في غير موضع من القرآن " يا أيها الذين آمنوا " وقال تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " وقال تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فأخوانكم في الدين " فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها وكذلك رسول الله ﷺ كل مؤمن في العالم إلى يوم القيامة وبيقين ندري أنه قد كان في المؤمنين على عهده عليه السلام ثم من بعده عصراً عصراً إلى يوم القيامة المستدل وهم الأقل وغير المستدل كمن أسلم من الزنج ومن الروم والفرس والآماء وضعفة النساء والرعاة ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه أو سيده إياه وهم الأكثر والجمهور فسماهم عز وجل مؤمنين وحكم لهم بحكم الإسلام وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة وقال تعالى " آمنوا بالله ورسوله " وقال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فصح يقيناً أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي ﷺ وأن كل من صد عنه فهو كافر حلال دمه وماله فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهياً عن اتباع الرسول ﷺ وعن القول بتصديقه لأنه عند هؤلاء القوم ليسوا عالمين بذلك وهذا خلاف القرآن وسنة رسول الله ﷺ واجتماع الأمة المتيقن أما القرآن والسنة فقد ذكرناهما وأما إجماع الأمة فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضاً لا يصح أن يكون أحد مسلماً إلا به ثم يغفل الله عز وجل أن يقول لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل أتراه نسي تعالى ذلك أو تعمد عز وجل ترك ذكر ذلك إضلالاً لعباده وبترك ذلك رسوله ﷺ إما عمداً أو قصداً إلى الضلال والإضلال أو نسياناً لما اهتدى له هؤلاء ونبهوا إليه وهم من هم بلادة وجهلاً وسقوطاً هذا لا يظنه إلا كافر ولا يحققه إلا مشرك فما قال قط رسول الله ﷺ لأهل قرية أو حلة أو حي ولا لراع ولا لراعية ولا للزنج ولا للنساء لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره فإذا لم يقل عليه السلام ذلك فالقول به واعتقاده افك وضلال وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد دون ذكر استدلال ثم هكذا جيلاً فجيلاً حتى حدث من لا قدر له فإن قالوا قد قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " قلنا نعم وهذا حق وإنما قاله الله عز وجل لمن خالف الحق الذي أمر عز وجل الجن والأنس باتباعه وهكذا القول إن كل من قال قولاً خالف فيه ما أمر الله عز وجل باتباعه فسواء استدل بزعمه أو لم يستدل هذا مبطل غير معذور إلا من عذره الله عز وجل فيما عذره فيه كالمجتهدين من المسلمين يخطأ قاصداً إلى الحق فقط ما لم يقم عليه الحجة فيعاند وأما من اتبع الحق فما كلفه الله عز وجل قط برهاناً والبرهان قد ثبت بصحة كل ما أمر الله تعالى به فسواء علمه فتبع الرسول ﷺ بعلمه حسبه أنه عالم بالحق معتقد له موقن به وإن جهل برهانه الذي قد علمه غيره وهذا خلق الله عز وجل الإيمان والعلم في نفسه كما خلقه في نفس المستدل ولا فرق قال تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً " فسماهم داخلين في دينه وإن كانوا أفواجاً وما شرط الله عز وجل قط ولا رسوله ﷺ أن يكون ذلك باستدلال بل هذا شرط من شرط ذلك ممن قذفه إبليس في قلبه وعلى لسانه ليخرجه إلى تكفير الأمة ولا عجب أعجب من اطباق هذه الطائفة الضالة المخذولة على أنه لا يصح لأحد إيمان حتى يستدل على ذلك ولا يصح لأحد استدلال حتى يكون شاكا في نبوة محمد ﷺ غير مصدق بها فإذا كان ذلك صح له الاستدلال وإلا فليس مؤمناً فهل سمع أحمق أو أدخل في الحمق والكفر من قول من قال لا يؤمن أحد حتى يكفر بالله تعالى وبالرسول ﷺ وإن من آمن بهما ولم يكفر بهما قط فهو كافر مشرك نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال بهذا.
قال أبو محمد: فهذان طريقان لا ثالث لهما كل طريق منها تنقسم قسمين أحدهما من اتبع الذي أمره الله عز وجل باتباعه وهو رسول الله ﷺ فهذا مؤمن عالم حقاً سواء استدل أو لم يستدل لأنه فعل ما أمره الله تعالى به ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما من لم يتبع قط غيره عليه الصلاة والسلام ووافق الحق بتوفيق الله عز وجل فهذا له في كل عقد اعتقده أجران وأما أن يكون حرم موافقه الحق وهو مريد في أمره ذلك اتباع رسول الله ﷺ فهذا معذور مأجور أجراً واحداً ما لم تقم عليه الحجة فيعاندها وهذا نص قوله عليه السلام في الحاكم المجتهد المصيب والمخطي والطريق الثاني من اتبع غير الذي أمره الله باتباعه فهذا سواء استدل أو لم يستدل هو مخطي ظالم عاص لله تعالى وكافر على حسب ما جاءت به الديانة في أمره ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما أصاب ما جاء به رسول الله ﷺ وهو غير قاصد إلى اتباعه عليه الصلاة والسلام فيه والآخر لم يصبه فكلاهما لا خير فيه وكلاهما آثم غير مأجور وكلاهما عاص لله عز وجل أو كافر على حاسب ما جاءت به الديانة من أمره لأنهما جميعاً تعديا حدود الله عز وجل فيما أمرهم به من اتباع رسول الله ﷺ وقال تعالى " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ولا ينتفع بإصابته الحق إذ لم يصبه من الطريق التي لم يجعل الله طلب الحق وأخذه إلا من قبلها وقد علمنا أن اليهود والنصارى يوافقون الحق في كثير كإقرارهم بنبوة موسى عليه السلام وكتوحيد بعضهم لله تعالى فما انتفعوا بذلك إذ لم يعتقدوه اتباعاً لرسول الله ﷺ وكذلك من قلد فقيهاً فاضلاً دون رسول الله ﷺ وكان عقده أنه لا يتبع رسول الله ﷺ إلا إن وافق قوله قول ذلك الفقيه فهذا فاسق بلا شك إن فعله غير معتقد له وهو كافر بلا شك إن اعتقده بقلبه أو نطق به بلسان لمخالفته قول الله تعالى " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنفي الله عز وجل عن أهل هذه الصفة الإيمان وأقسم على ذلك ونحن ننفي ما نفي الله عز وجل عمن نفاه عنه ونقسم على ذلك ونوقن أننا على الحق في ذلك وأما من قلد فقيهاً فاضلاً وقال إنما اتبعه لأنه اتبع رسول الله ﷺ فهذا مخطي لأنه فعل من ذلك ما لم يأمره الله تعالى به ولا يكفر لأنه قاصد إلى اتباع رسول الله ﷺ مخطي للطريق في ذلك ولعله مأجور بنيته أجراً واحداً ما لم تقع الحجة عليه بخطاء فعله فإن ذكروا قول رسول الله ﷺ في حديث فتنة القبر وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقال له ما قولك في هذا الرجل يعني رسول الله ﷺ فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
قال أبو محمد: هذا حق على ظاهره كما أخبر رسول الله ﷺ أنه لا يقول هذا إلا المنافق أو المرتاب لا المؤمن الموقن بل المؤمن الموقن ذكر في هذا الحديث أنه يقول هو عبد الله ورسوله أتانا بالهدى والنور أو كلاماً هذا معناه فإنما أخبر عليه السلام عن موقن ومرتاب لا عن مستدل وغير مستدل وكذلك نقول أن من قال في نفسه أو بلسانه لولا أني نشأت بين المسلمين لم أكن مسلماً وإنما اتبعت من نشأت بينهم فهذا ليس مؤمناً ولا موقناً ولا متبعاً لمن أمره الله تعالى باتباعه بل هو كافر.
قال أبو محمد: وإذا كان قد يستدل دهره كله من لا يوفقه الله تعالى للحق وقد يوفق من لا يستدل يقيناً لو علم أن أباه أو أمه أو ابنه أو امرأته أو أهل الأرض يخالفونه فيه لاستحل دماءهم كلهم ولو خير بين أن يلقي في النار وبين أن يفارق الإسلام لاختار أن يحرق بالنار على أن يقول مثل هذا قلنا فإذ هو موجود فقد صح أن الاستدلال لا معنى له وإنما المدار على اليقين والعقد فقط وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإنما يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه غليه ولم يسكن قلبه إلى اعتقاد ما لم يعرف برهانه فهذا يلزمه طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه ناراً وقودها الناس والحجارة فإن مات شاكا قبل أن يصح عنده البرهان مات كافراً مخلداً في النار أبداً.
قال أبو محمد: ثم نرجع إلى ما كنا فيه هل المعارف باضطرار أم باكتساب فنقول وبالله تعالى التوفيق أن المعلوات قسم واحد وهو ما عقد عليه المرء قلبه وتيقنه ثم هذا ينقسم قسمين أحدهما حق في ذاته قد قام البرهان على صحته والثاني لم يقم على صحته برهان وأما ما لم يتيقن المرء صحته في ذاته فليس عالماً به ولا له به علم وإنما هو ظان له وأما كل ما علمه المرء ببرهان صحيح فهو مضطر إلى علمه به لأنه لا مجال للشك فيه عنده وهذه صفة الضرورة وأما الاختيار فهو الذي إن شاء المرء فعله وإن شاء تركه.
قال أبو محمد فعلمنا بحدوث العالم وأن له بكل ما فيه خالقاً واحداً لم يزل لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والعلم بصحة نبوة محمد ﷺ وصحة كل ما أتى به مما نقله إلينا الصحابة كلهم رضي الله عنهم ونقله عنهم الكواف كافة بعد كافة حتى بلغ إلينا أو نقله المتفق على عدالته عن مثله وهكذا حتى بلغ إلى رسول الله ﷺ فهو كله علم حق متيقن مقطوع على صحته عند الله تعالى لأن الأخذ بالظن في شيء من الدين لا يحل قال الله تعالى " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وقال رسول الله ﷺ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وقال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فصح أن الدين محفوظ لما ضمن الله عز وجل حفظه فنحن على يقين أنه لا يجوز أن يكون فيه شك وقد أمر الله تعالى بقبول خبر الواحد العدل ومن المحال أن يأمر الله عز وجل بأن نقول عليه ما لم يقل وهو قد حرم ذلك أو أن نقول عليه ما لا نعلم أنه تعالى قد حرم ذلك بقوله " وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون " فكل ما أمرنا الله عز وجل بالقول به فنحن على يقين من أنه من الدين وأن الله تعالى قد حماه من كل دخل وكذلك أخذنا بالزايد من الاثنين المتعارضين ومن الخبرين الثابتين المتعارضين وقد علمنا صحة أن الحق في فعلنا ذلك علم ضرورة متيقن ولا أعجب ممن يقول أن خبر الواحد لا يوجب العلم وإنما هو غالب ظن ثم نقطع به ونقول أنه قد دخلت في الدين دواخل لا تميز من الحق وأنه لا سبيل إلى تمييز ما أمر الله تعالى به في الدين مما شرعه الكذابون هذا أمر نعوذ بالله منه ومن الرضاء به.
قال أبو محمد: وأما ما اجتمعت عليه الجماعات العظيمة من أرايهم مما لم يأت به نص عن الله عز وجل ولا عن رسول الله ﷺ فهو باطل عند الله بيقين لأنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل وقال على الله تعالى ما لم يقله وبرهان ذلك أنه قد يعارض ذلك قول آخر قال ته جماعات مثل هذه والحق لا يتعارض والبرهان لا يناقضه برهان آخر وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم الأحكام في أصول فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فكل من كان من أهل الملل المخالفة فبلغته معجزات النبي ﷺ وقامت عليه البراهين في التوحيد فهو مضطر إلى الإقرار بالله تعالى وبنبوة محمد ﷺ وكذلك كل من قام على شيء ما أي شيء كان عنده برهان ضروري صحيح وفهمه فهو مضطر إلى التصديق به سواء كانت من الملل أو من النحل أو من غير ذلك وإنما أنكر الحق في ذلك أحد ثلاثة إما غافل معرض عما صح عنده من ذلك مشتغل عنه بطلب معاشه أو بالتزيد من مال أو جاه أو صوت أو لذة أو عمل يظنه صلاحاً أو إيثاراً للشغل بما يتبين له من ذلك عجزاً وضعف عقل وقلة تمييز لفضل الإقرار بالحق أو مسوف نفسه بالنظر كحال كل طبقة من الطبقات الذين نشاهدهم في كل مكان وكل زمان وأما مقلد لأسلافه أو لمن نشأ بينهم قد شغله حسن الظن بمن قلد أو استحسانه لما قلد فيه وغمر الهوى عقله عن التفكير فيما فهم من البرهان قد حال ما ذكرناه بينه وبين الرجوع إلى الحق وصرف الهوى وناظر قلبه عن التفكير فيما يتبين له من البرهان ونفر عنه وأوحشه منه فهو إذا سمع برهاناً ظاهراً لا مدفع فيه عنده ظنه من الشيطان وغالب نفسه حتى يعرض عنه وقالت له نفسه لا بد أن هاهنا برهاناً يبطل به هذا البرهان الذي أسمع وإن كنت أنا لا أدريه وهل خفي هذا على جميع أهل ملتي وأهل نحلتي أو مذهبي أو على فلان وفلان وفلان ولا بد أنه قد كان عندهم ما يبطلون به هذا.
قال أبو محمد: وهذا عام في أكثر من يظن أنه عالم في كل ملة وكل نحلة وكل مذعب وليس واحد من هاتين الطائفتين إلا والحجة قد لزمته وبهرته ولكنه غلب وساوس نفسه وحماقاتها على الحقايق اللايحة له ونصر ظنه الفاسد على يقين قلبه الثابت وتلاعب الشيطان به وسخر منه فأوهمه لشهوته لما هو فيه أن هاهنا دليلاً يبطل به هذا البرهان وأنه لو كان فلان حياً أو حاضراً لأبطل هذا البرهان وهذا أعظم ما يكون من السخافة لما لا يدري ولا سمع به وتكذيب لما صح عنده وظهر إليه ونعوذ بالله من الخذلان والثالث منكر بلسانه ما قد تيقن صحته بقلبه إما استدامة لرياسة أو استدرار مكسب أو طمعاً في أحدهما لعله يتم له أو لا يتم ولو تم له لكان خاسر الصفقة في ذلك أو أثر غروراً ذاهباً عن قريب على فوزاً لا بد أو يفعل ذلك خوف أذى أو عصبية لمن خالف ما قد قام البرهان عنده أو عداوة لقايل ذلك القول الذي قام به عنده البرهان وهذا كله موجود في جمهور الناس من أهل كل ملة وكل نحلة وأهل قال أبو محمد: ويقال لمن قال ممن ينتمي إلى الإسلام أن المعارف ليست باضطرار وإن الكفار ليسوا مضطرين إلى معرفة الحق في الربوبية والنبوة وأخبرونا عن معجزات الأنبياء عليهم السالم هل رفعت الشك جملة عن كل من شاهدها وحسمت عللها وفصلت بين الحق والباطل فصلاً تاماً أم لا فإن قالوا نعم أقروا بأن كل من شاهدها مضطر إلى المعرفة بأنها من عند الله تعالى حق شاهد بصدق من أتى بها ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا ولله الحمد وأن قالوا لا بل الشك باق فيها ويمكن أن تكون غير شاهدة بأنهم محقون قطع بأن الأنبياء عليهم السلام لم يأتوا ببرهان وإن الشك باق في أمرهم وأن حجة الله تعالى لم تقع على الكفار ولا لزمهم قط له تعالى حجة وأن الأنبياء عليهم السلام إنما أتوا بشيء ربما قام في الظن أنه حق وربما لم يقم وهذا كفر مجرد من دان به أو قاله وهكذا نسألهم في البراهين العقلية على آيات التوحيد وفي اكواف الناقلة أعلام الأنبياء عليهم السلام حتى يقروا بالحق بأن حجج الله تعالى بكل ما ظهرت وبهرت واضطرت الكفار كلهم إلى تصديقها والمعرفة بأنها حق أو يقولوا أنه لم تم لله حجة على أحد ولا تبين قط لأحد تعين صحة نبوة محمد ﷺ وإنما نحن في الإقرار بذلك على ظن إلا أنه من الظنون قوي وقد يمكن أن يكون بخلاف ذلك ومن قال بهذا فهو كفر مجرد محض شرك لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: ومن أنكر أن يكون الكفار وكل مبطل مضطرين إلى تصديق كل ما قام به برهان بعد بلوغه إليهم وقال أن ما اضطر المرء إلى معرفته فلا سبيل له إلى إنكاره أريناه كذب قوله في تكوين الأرض والأفلاك ومدار الشمس والقمر والنجوم وتناهي مسافة كل ذلك وأكثر الناس على إنكار هذا ودفعه الحق في ذلك وكذلك من دان بالقياس والرأي أو دليل الخطاب وسمع البراهين في إبطالها فهو مضطر إلى معرفة بطلان ما هو عليه مكابر لعقله في ذلك مغالط لنفسه مغالب ليقينه مغلب لظنونه.
قال أبو محمد: وعلم الملائكة عليهم السلام وعلم النبيين عليهم السلام بصحة ما جاءتهم به الملائكة وأوحي إليهم به وأروه في منامهم علم ضروري كساير ما أدركوه بحواسهم وأوايل عقولهم وكعلمهم بأن أربعة أكثر من اثنين وأنا النار حارة والبقل أخضر وصوت الرعد وحلاوة العسل ونتن الحلتيت وخشونة القنفذ وغير ذلك ولو لم يكن الأمر كذلك لكان عند الملائكة والنبيين شكاً في أمرهم وهذا كفر ممن أجازه إلا أن الملائكة لا علم لهم بشيء إلا هكذا ولا ظن لهم أصلاً لأنهم لا يخطئون ولا ركبوا من طبايع متخالفة كما ركب الإنسان فإن قال قائل فإذ العلم كله باضطرار فعل الله تعالى في النفوس فكيف يوجر الإنسان أو يعذب على فعل الله تعالى فيه قلنا نعم لا شيء في العالم إلا خلق الله تعالى وقد صحح البرهان بذلك على ما أوردنا في كلامنا في خلق الأفعال في ديواننا والحمد لله رب العالمين وما نقل حافظ نصاً ولا برهان عقل بالمنع من أن يعذبنا الله تعالى ويؤجرنا على ما خلق فينا والله تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهو يسألون.
قال أبو محمد: وكيف ينكر أهل الغفلة أن يكون قوم يخالفون ما هم إلى المعرفة به مضطرون وهم يشاهدون السوفسطائية الذين يبطلون الحقائق جملة وكما يعتقد النصارى وهم أمم لا يحصي عددهم إلا خالقهم ورازقهم ومضلهم لا إله إلا هو وفيهم علماء بعلوم كثيرة وملوك لهم التدابير الصائبة والسياسات المعجبة والآراء المحكمة والفطنة في دقائق الأمور وبرص بغوامضها وهم مع ذلك يقولون أن واحداً ثلاثة وثلاثة واحد وأن أحد الثلاثة أب والثاني ابن والثالث روح وأن الأب هو الابن وليس هو الابن والإنسان هو الإله وهو غير إله وإن المسيح إله تام وإنسان تام وهو غيره وإن الأول الذي لم يزل هو الحدث الذي لم يكن ولا هو هو.
قال أبو محمد: وليس في الجنون أكثر من هذا واليعقوبية منهم وهم مئين ألوف يعتقدون أن الباري تعالى عن كفرهم ضرب بالسياط واللطام وصلب ونحر ومات وسقى الحنظل وبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر وكأصحاب الحلول وغالية الرافضة الذين يعتقدون في رجل جالس معهم كالحلاج وابن أبي العز أنه الله والإله عندهم قد يبول ويسلح ويجوع فيأكل ويعطش فيشرب ويمرض فيسوقون إليه الطبيب ويقلع ضرسه إذا ضرب عليه ويتضرر إذا أصابه دمل ويجامع ويحتجم ويفتصد وهو الله الذي لم يزال ولا يزال خالق هذا العالم كله ورازقه ومحصيه ومدبره ومدبر الأفلاك المميت المحيي العالم بما في الصدور ويصبرون في جنب هذا الاعتقاد على السجود والمطابق وضرب السياط وقطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب وهتك الحريم وفيهم قضاة وكتاب وتجاورهم اليوم ألوف وكما يدعي طوائف اليهود وطوائف من المسلمين أن ربهم تعالى جسد في صورة الإنسان لحم ودم يمشي ويقعد كالأشعرية الذين يقولون أن هاهنا أحوالاً لا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معلومة ولا مجهولة ولا حق ولا باطل وأن النار ليست حارة والثالج ليس بارداً وكما يقول بعض الفقهاء وأتباعه أن رجلاً واحداً يكون ابن رجلين وابن امرأتين كل واحد منهما أمه وهو ابنها بالولادة.
قال أبو محمد: أترى كل من ذكرنا لا تشهد نفسه وحسه ولا يقر عقله بأن كل هذا باطل بلى والذي خلقهم ولكن العوارض التي ذكرنا قبل سهلت عليهم هذا الاختلاط وكرهت عليهم الرجوع إلى الحق والإذعان له.
قال أبو محمد: وأما العناد فقد شاهدناه من كل رأيناه في المناظرة في الدين وفي المعاملات في الدنيا أكثر من أن يحصي ممن يعلم الحق يقيناً ويكابر على خلافه ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله قال أبو محمد: لا يدرك الحق من طريق البرهان إلا من صفى عقله ونفسه من الشواغل التي قدمنا ونظر من الأقوال كلها نظراً واحداً واستوت عنده جميع الأقوال ثم نظر فيها طالباً لما شهدت البراهين الراجعة رجوعاً صحيحاً غير مموه ضرورياً إلى مقدمات مأخوذة من أوايل العقل والحواس غير مسامح في شيء من ذلك فهذا مضمون له بعون الله عز وجل الوقوف على الحقائق والخلاص من ظلمة الجهل وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما نقله اثنان فصاعداً نوقن أنهما لم يجتمعا ولا تساررا فأخبرا بخبر واحد راجع إلى ما أدركه بالحواس من أي شيء كان فهو حق بلا شك مقطوع على حيته والنفس مضطرة إلى تصديقه وهذا قول أحد الكافة وأولها إذ لا يمكن البتة اتفاق اثنين في توليد حديث واحد لا يختلفان فيه عن غير تواطؤ وأما إذا تواطأت الجماعة العظيمة فقد تجتمع على الكذب وقد شاهدنا جماعات يشكرون ولاتهم وهم كاذبون إلا أن هذا لا يمكن أن يتفقوا على ظنه أبداً ومن أنكر ما تنقله الكافة لزمه أن لا يصدق أنه كان في الدنيا أحد قبله لأنه لا يعرف كون الناس إلا بالخبر.
قال أبو محمد: وقد يضطر خبر الواحد في بعض الأوقات إلى التصديق يعرف ذلك من تدبر أمور نفسه كمتذر بموت إنسان لدفنه وكرسالة من عند السلطان يأتي بها بريد وككتاب وارد من صديق بديهة وكمخبر يخبرك أن هذا دار فلان وكمنذر بعرس عند فلان وكرسول من عند القاضي والحاكم وسائر ذلك من أخبار بأن هذا فلان بن فلان ومثل هذا كثير جداً وهذا لا ينضبط بأكثر مما يسمع ومن راعى هذا المعنى لم يمض له يوم واحد قطعاً حتى يشاهد في منزله وخارج منزله من خبر واحد ما يضطر إلى تصديقه ولا بد كثيراً جداً وأما في الشريعة فخبر الواحد الثقة موجب للعلم وبرهان شرعي قد ذكرناه في كتابنا الأحكام لأصول الأحكام وقد ادعى المخالفون أن ما اتفقت عليه أمتنا بآرائها فهي معصومة بخلاف سائر الأمم ولا برهان على هذا وقال النظام أن خبر التواتر لا يضطر لأن كل واحد منهم يجوز عليه الغلط والكذب وكذلك يجوز على جميعهم ومن المحال أن يجتمع ممن يجوز عليه الكذب وممن يجوز عليه الكذب من لا يجوز عليه الكذب ونظر ذلك بأعمى وأعمى وأعمي فلا يجوز أن يجتمع مبصرون.
قال أبو محمد: وهذا تنظير فاسد لأن الأعمى ليس فيه شيء من صحة البصر وليس كذلك المخبرون لأن كل واحد منهم كما يجوز عليه الكذب كذلك يجوز عليه الصدق ويقع منه وقد علم بضرورة العقل أن اثنين فصاعداً إذا فرق بينهما لم يمكن البتة منهما أن يتفقا على توليد خبر كاذب يتفقان في لفظه ومعناه فصح أنهما إذا أخبرا بخبر فاتفقا فيه أنهما أخبرا عن علم صحيح موجود عندهما ومن أنكر هذا لزمه أن لا يصدق بشيء من البلاد الغائبة عنه ولا بالملوك السالفين ولا بالأنبياء وهذا خروج إلى الجنون بلا شك أو إلى المكابرة في الحس وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل كيف أجزتم ههنا إطلاق اسم الضرورة والاضطرار ومنعتم من ذلك في أفعال االفاعلين عند ذكركم الاستطاعة وخلق الله تعالى أفعال العباد وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في عباده قلنا أن الفرق بين الأمرين في ذلك لائح وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله لو اختار تركه وممكن منه ذلك وليس ممكناً منه اعتقاد خلاف ما تيقنه بأن يرفع عن نفسه تحقيق ما عرف أنه حق فهكذا أوقعناها هنا اسم الاضطرار ومنعنا منه هنالك وبالله تعالى نتأيد.
الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى القول بتكافؤ الأدلة ومعنى هذا أنه لا يمكن نصر مذهب على مذهب ولا تغليب مقالة على مقالة حتى يلوح الحق من الباطل ظاهراً بيناً لا إشكال فيه بل دلائل كل مقالة فهي مكافئة لدلائل سائر الم قال ات وقالوا كلما ثبت بالجدل فإنه بالجدل ينقض وانقسم هؤلاء إلى أقسام ثلاثة فيما أنتجه لهم هذا الأصل فطائفة قالت بتكافؤ الأدلة جملة في كل ما اختلف فيه فلم تحقق الباري تعالى ولا أبطلته ولا أثبتت النبوة ولا أبطلتها وهكذا في جميع الأديان والأهواء لم تثبت شيئاً من ذلك ولا أبطلته إلا أنهم قالوا إننا نوقن أن قال أبو محمد: وكان إسماعيل بن يونس الأعور الطبيب اليهودي تدل أقواله ومناظراته دلالة صحيحة على أنه كان يذهب إلى القول لاجتهاده في نصر هذه المقالة وإن كان غير مصرح بأنه يعتقدها وقالت طائفة أخرى بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري تعالى فأثبتت الخالق تعالى وقطعت بأنه حق لكل ما دونه بيقين لا شك فيه ثم لم تحقق النبوة ولا أبطلتها ولا حققت دين ملة ولا أبطلته لكن قالت أن هذه الأقوال قولاً صحيحاً بلا شك إلا أنه غير ظاهر إلى أحد ولا بين ولا كلفه الله تعالى أحداً وكان إسماعيل بن القراد الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقيناً وقد ناظرنا عليه مصرحاً به وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونقضنا علله الانت قال في الملل تلاعب.
قال أبو محمد: وقد ذكر لنا عن قوم من أهل النظر والرياسة في العلم هذا القول إلا أننا لم يثبت ذلك عندنا عنهم وطائفة قالت بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري عز وجل ودون النبوة فقطعت أن الله عز وجل حق وأنه خالق وأن النبوة حق وأن محمداً رسول الله ﷺ حقاً ثم لم يغلب قولاً من أقوال أهل القبلة على قول بل قالوا أن فيها قولاً هو الحق بلا شك إلا أنه غير بين إلى أحد ولا ظاهر وأما الأقوال التي صاروا إليها فيما يثبتوا عليها منها فطائفة لزمت الحيرة وقالت لا ندري ما نعتقد ولا يمكننا أخذ مقالة لم يصح عندنا دون غيرها فنكون مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا لكنا لا ننكر شيئاً من ذلك ولا نثبته وجمهور هذه الطائفة مالت إلى اللذات وأمراح النفوس في الشهوات كيف ما مالت إليه بطبايعها وطايفة قالت على المرء فرض لموجب العقل ألا يكون سداً بل يلزمه ولا بد أن يكون له دين يرد جربه عن الظلم والقبائح وقالوا من لا دين له فهو غير مأمور في هذا العالم على الإساد وقتل النفوس غيلة وجهراً وأخذ الأموال خيانة وعصياً والتعدي على الفروج تحيلاً وعلانية وفي هذا هلاك العالم بأسره وفساد البنية وانحلال النظام وبطلان العلوم والفضايل كلها التي تقتضي العلوم بلزومها وهذا هو الفساد الذي توجب العقول التحرز منه واجتنابه قالوا فمن لا يدن له فواجب على كل من قدر على قتله أن يسارع إلى قتله وإراحة العالم منهوتعجيل استكفاف ضره لأنه كالأفعى والعقرب أو أضر منهما ثم انقسم هؤلاء قسمين فطايفة قالت فإذ الأمر كذلك فوجب على الإنسان لزوم الدين الذي نشأ عليه أو ولد عليه لأنه هو الدين الذي تخيره الله له في مبدأ خلقه ومبدأ نشئته بيقين وهو الذي أثبته الله عليه فلا يحل له الخروج عما رتبه الله تعالى فيه وابتداه عليه أي دين كان وهذا كان قول إسماعيل بن القداد وكان يقول من خرج من دين إلى دين فهو وقاح متلاعب بالأديان عاص لله عز وجل المتعبد له بذلك الدين وكان يقول بالمسألة الكلية ومعنى ذلك ألا يبقى أحد دون دين يعتقده على ما ذكرنا آنفاً وقالت طائفة لا عذر للمرء في لزوم دين أبيه وجده أو سيده وجاره ولا حجة له فيه لكن الواجب على كل أحد أن يلزم ما اجتمعت الديانات بأسرها والعقول بكليتها على صحته وتفضيله فلا يقتل أحداً ولا يزني ولا يلوط ولا يبغ ولا يسع في إفساد حرمة أحد ولا يسرق ولا يغصب ولا يظلم ولا يجر ولا يجن ولا يغش ولا يغتب ولا ينم ولا يسفه ولا يضرب أحداً ولا يستطيل عليه ولكن يرحم الناس ويتصدق ويؤدي الأمانة ويؤمن الناس شره ويعين المظلوم ويمنع منه فهذا هو الحق بلا شك لأنه المتفق عليه من الديانات كلها ويتوقف عما اختلفوا فيه ليس علينا غير هذا لأنه لم يلح لنا الحق في شيء منه دون غيره.
قال أبو محمد: فهذه أصولهم ومعاقدهم وأما احتجاجهم في ذلك فهو أنهم قالوا وجدنا الديانات والآراء والم قال ات كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن الأوايل وبراهين باهرة وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على البيان والتحلل والتشعب لهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بينهم قالوا فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلية ولو كان لما أشكل على أحد ولم يختلف الناس في ذلك كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لايح قالوا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة إنما تتبع إماماً نشأت عليه وإماماً يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبيت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه وقالوا أيضاً إنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا فيها ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة وبأنهم قد اشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزوه من الشغب والإقناع ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وأفنوا فيه دهرهم ورسخوا فيه وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلايل الصحاح وميزوها من الفاسدة وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطق بالحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جميع هاتين الطائفتين فلسفيهم وكلاميهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافاً فمن يهودي يموت على يهدويته ونصراني يتهالك على نصرانيته وتثليثه ومجوسي يستميت على مجوسيته ومسلم يستقتل في إسلامه ومناني يستهلك في مانونيته ودهري ينقطع في دهريته قد استوى العامى المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتلكم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضاً كذلك سواء سواء فإن كان يهودياً فاما رباني يتقد غيظاً على سائر فرق دينه وأما صابئي يلعن سائر فرق دينه وأما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه وأما سامري يبرأ من سائر فرق دينه وإن كان نصرانياً فإما ملكي يتهالك غيظاً على سائر فرق دينه وأما نسطوري يقد أسفاً على سائر فرق دينه وأما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه وإن كان مسلماً فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته وأما معتزلي يكفر سائر فرق ملته وأما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته وأما مرجئي لا يرضى عن سائر فرق ملته وأما سني ينافر فرق ملته قد استوى في ذلك العامي والمقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا إما حنيفي يجادل عن حنيفيته وإما مالكي يقاتل عن مالكيته وإما شافعي يناضل عن شافعيته وإما حنبلي يضارب عن حنبليته وإما ظاهري يحارب عن ظاهريته وإما متحير مستدل فهنالك جاء التحازب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة وكل امرئ ممن ذكرنا يزرى على الآخرين وكلهم يدعي أنه أشرف على الحقيق وهكذا القائلون بالدهر أيضاً متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم فمن موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلاً لم يزل ومن موجب أزلية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدث ومن موجب أزلية الفاعل وحدوث العالم أمبطل للنبوات كلها كما اختلف سائر أهل النحل أو لا فرق قالوا فصح أن جميعهم إما متبع للذي نشأ عليه والنحلة التي تربي عليها وإما متبع لهواه قد تخيل له أنه الحق فهم على ما ذكرنا دون تحقيق قالوا فلو كان للبرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ولبان على طول الأيام وكرور الزمان ومرور الدهور وتداول الأجيال له وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم وإفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس واستنفاذ وسعهم وجهدهم أين الحق فيرتفع الإشكال بل الأمر واقف بحسبه أو متزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق قالوا وأيضاً فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل المتيقن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج المستنفذ لعمره في طلب الحقائق المؤثر للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاه المستفرغ لقوته في ذلك النافر عن التقليد يعتقد مقالة ما ويناظر عنها ويحاجج دونها ويدافع أمامها ويعادي من خالفها مجداً في ذلك موقناً بصوابه وخطأ من خالفه منافراً له مضللاً أو مكفراً فيبقى كذلك الدهر الطويل والأعوام الجمة ثم أنه تبدو له بادية عنها فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر ولا هل تلك المقالة التي كان يدين بصحتها وينصرف يقاتل في إبطالها ويناظر في إفسادها ويعتقد من ضلالها وضلال أهلها الذي كان يعتقد من صحتها ويعجب الآن من نفسه أمس وربما عاد إلى ما كان عليها أو خرج إلى قول ثالث قالوا فدل هذا على فساد الأدلة وعلى تكافؤها جملة وإن كل دليل فهو هادم الآخر كلاهما يهدم صاحبه وقالوا أيضاً لا يخلو من حقق شيئاً من هذه الديانات أو الم قال ات من أن يكون صح له أو لم يصح له ولا سبيل إلى قسم ثالث قالوا فإن كان لم يصح له بأكثر من دعواه أو من تقليده مدعياً فليس هو أولى من غيره بالصواب وإن كان صح له فلا يخو من أن يكون صح بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته أو صح له بدليل ما غير هذين ولا سبيل إلى قسم رابع فإن كان صح له بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته فيجب أن لا يختلف في ذلك أحد كما لم يختلفوا فيما أدرك بالحواس وبديهة العقل من أن ثلثة أكثر من اثنين وأنه لا يكون المرء قاعداً قائماً معاً بالعقل فلم يبق إلا أن يقولوا أنه صح لنا بدليل غير الحواس فنسألهم عن ذلك الدليل بماذا صح عندكم بالدعوى فلستم بأولى من غيركم في دعواه أم بالحواس ويدهة العقل فكيف خولفتم فيه هذا ولا يختلف في مدركاته أحد أم بدليل غير ذلك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا وهذا ما لا مخلص لهم منه قالوا ونسألهم أيضاً عن علمهم بصحة ما هم عليه أيعلمون أنهم يعلمون ذلك أم لا فإن قالوا لا نعلم ذلك أحالوا وسقط قولهم وكفونا مؤونتهم لأنهم يقرون أنهم لا يعلمون أنهم يعلمون ما علموا وهذا هوس وإفساد لما يعتقدونه وإن قالوا بل نعلم ذلك سألناهم أبعلم علموا ذلك أم بغير علم وهكذا أبداً وهذا يقتضي أن يكون للعلم علم ولعلم العلم علم إلى ما لا نهاية له وهذا عندهم محال.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شغباً غير ما ذكرنا ولا لهم متعلق سواه أصلاً قال أبو محمد: وكل هذا الذي موهوا به منحل بيقين ومنتقض بأبين برهان بلا كثير كلفة ولم نجد أحداً من المتكلمين السالفين أورد باباً خالصاً في النقض على هذه المقالة ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما موهوا به بالبراهين الواضحة وبالله تعالى التوفيق وذلك بعد أن نبين فساد معاقد هذه الطوائف المذكورة إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى نتأيد أما الطائفة المتحيرة فقد شهدت على أنفسها بالجهل وكفت خصومها مؤنتها في ذلك وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا من لم يتبين له الشيء غباراً على من تبين له بل من علم فهو الحجة على من جهل هذا هو الذي لا يشك أحد فيه في جميع العلوم والصناعات وكل معلوم يعلمه قوم ويجهله قوم ولا أحمق ممن يقول لما جهلت أنا أمر كذا ولم أعرفع علمت أن كل أحد جاهل به كجهلي وهذه صفة هؤلاء القوم نفسها ولو ساغ هذا لأحد لبطلت الحقائق وجميع المعارف وجميع الصناعات إذ لكل شيء منها من يجهله من الناس نعم ومن لا يتحجج فيه ولا يفهمه وإن طلبه هذا أمر مشاهد بالحواس فهم قد أقروا بالجهل وندعي نحن العلم بحقيقة ما اعترفوا بجهلهم به فالواجب عليهم أن ينظروا في براهين المدعين للمعرفة بما جهلوه نظراً صحيحاً متقصي بغير هوى فلا بد يقيناً من أن يلوح حقيقة قول المحق وبطلان قول المبطل فتزول عنهم الحيرة والجهل حينئذ فسقطت هذه المقالة بيقين والحمد لله رب العالمين.
وأما من قطع بأن ليس هاهنا مذهب صحيح أصلاً فإن قوله ظاهر الفساد بيقين لا إشكال فيه لأنهم أثبتوا حقيقة وجود العالم بما فيه وحقيقة ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معاً ولم يصححوا أن له خالقاً ولا أنه لا خالق له وأبطوا كلا الأمرين وأبطوا النبوة وأبطوا إبطالها فقد خرجوا يقيناً إلى المحال وإلى أقبح قول السوفسطائية وفارقوا بديهة العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكة عقل في أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فإنه حق وإن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد قال نعم والآخر لا فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته وأما قول قائل هذا حق باطل معاً من وجه واحد في وقت واحد وقول من قال لا حق ولا باطل فهو بين باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته فواجب بإقرارهم أن من قال أن العالم لم يزل وقال الآخر هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها فظهر بيقين وضرورة العقل يقيناً فساد هذه المقالة إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تلك به السوفسطائية مما ذكرناه قبل وبالله تعالى التوفيق وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقيناً أنه على ضلال وخطأ وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه إلى الإنهماك وإذا بطل شيء بيقين فبيقين قد بطل ما تولد منه وإن مال إلى أحد الأقوال الآخر فكلها مبطل للزوم اللذات والإنهماك فصح ضرورة بطلان هذه الطريقة وإن صار إلى تحقيق الدهرية كلم بما تلكم به الدهرية مما قد أوضحناه والحمد لله وأما من قال بإلزام المرء دين سلفه والدين الذي نشأ عليه فخطأ لا خفاء به لأننا نقول لمن قال بوجوب ذلك ولزومه أخبرنا من أوجبه ومن ألزمه فالإيجاب والإلزام يقتضي فاعلاً ضرورة ولا بد منها فمن ألزم ما ذكرتم من أن يلزم المرء دين سلفه أو الدين الذي نشأ عليه الله ألزم ذلك جميع عباده أم غير الله تعالى أوجب ذلك إما إنسان وإما عقل وإما دليل فإن قال بل ما ألزم ذلك إلى من دون الله تعالى قيل له إن من دون الله تعالى معصي مخالف مرفوض لا حق له ولا طاعة إلى من أوجب الله عز وجل له فيلزم طاعته لأن الله أوجبها لا لأنها واجبة بذاتها وليس من أوجب شيئاً دون الله تعالى بأولى من آخر أبطل ما أوجب هذا وأوجب بطلانه وفي هذا كفاية لمن عقل ولا ينقاد للزوم من دون الله تعالى إلا جاهل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد ولا فرق وإن قال إن العقل ألزم ذلك قيل له أنك تدعي الباطل على العقل إذا دعيت عليه ما ليس في بنيته لأن العقل لا يوجب شيئاً وإنما العقل قوة تميز النفس بها الأشياء على ما هي عليه فقط ويعرف ما صح وجوبه مما أوجبه من تلزم طاعته مما لم يصح وجوبه مما لم يوجبه من يجب طاعته ليس في العقل المراد به المتميز شيء غير هذا أصلاً وأيضاً فإن قائل هذا مجاهر بالباطل لأنه لا يخلو إن يكون يزعم أن العقل أوجب ذلك ببديهته أو ببرهان راجع إلى البديهة من قرب أو من بعد فإن ادعى أن العقل يوجب ذلك ببديهته كابر الحس ولم ينتفع بهذا أيضاً لأنه لا يعجز عن التوقح بمثل هذه الدعوى أحد في أي شيء شاء وإن ادعى أنه أوجب ذلك برهان راجع إلى العقل كلف المجيء به ولا سبيل إليه أبداً فإن قال أن الله عز وجل أوجب ذلك سئل الدليل على صحة هذه الدعوى التي أضافها إلى الباري عز وجل وهذا ما لا سبيل إليه لأن ما عند الله عز وجل من إلزام لا يعرف البتة إلا بوحب من عنده تعالى إلى رسول من خلقه يشهد له تعالى بالمعجزات وأما بما يضعه الله عز وجل في العقول وليس في شيء من هذين دليل على صحة دعوى هذا المدعي وأما احتجاجه بأنه هو الدين الذي اختراه الله عز وجل لكل أحد وأنشأه عليه فلا حجة له في هذا لأننا لم نخالفه في أن هذا درب على هذا الدين وخلقه الله عز وجل مع من دربه عليه بل نقر بهذا كما نقر بأن الله خلقه في مكان ما في صناعة ما وعلى معاش ما وعلى خلق ما وليس في ذلك دليل عند أحد من العالم على أنه لا يجوز له فراق ذلك الخلق إلى ما هو خير منه ولا على أنه لزمه لزوم المكان الذي خلق فيه والصناعة التي نشأ عليها والقوت الذي كبر عليه بل لا يختلف اثنان في أن له مفارقة ذلك المكان وتلك الصناعة وذلك المعاش إلى غيرها وأن فرضاً عليه لزوال عن كل ذلك إذ كان مذموماً إلى المحمود من كل ذلك وأيضاً فإن جميع الأديان التي أوبجها كلها هذا القائل وحقق جميعها فكل دين منها فيه إنكار غيره منها وأهل كل دين منها تكفر سائر أهل تلك الأحيان وكلهم يكذب بعضهم بعضاً وفي كل دين منها تحريم التزام غيره على كل أحد فلو كان كل دين منها لازماً أن يعتقده من نشاء عليه لكان كل دين منها حقاً وإذا كان كل دين منها حقاً منها يبطل سائرها وكل ما أبطله الحق فهو باطل بلا شك فكل دين منها باطل بلا شك فوجب ضرورة على قول هذا القائل أن جميع الأديان باطل وأن جميعها حق فجميعها حق باطل معاً فبطل هذا القول بيقين لا شك فيه والحمد لله رب العالمين وأما من قال أني ألزم فعل الخير الذي اتفقت الديانات والعقول على أنه فضل وأجتنب ما اتفقت الديانات والعقول على أنه قبيح فقول فاسد مموه مضمحل أول ذلك أنه كذب ولا اتفقت الديانات ولا العقول على شيء من ذلك بل جميع الديانات إلا الأقل منها مجموعون على قتل من خالفهم وأخذ أموالهم وكل دين لا نحاشي ديناً قاتل بأحكام هي عند سائرها ظلم وأما المنانية فإنها وإن لم تقل بالقتل فإنها تقول بترك النكاح الذي هو مباح عند سائر الديانات ويقولون بإباحة اللياطة والسحق وسائر الديانات محرمة لذلك فما اتفقت الديانات على شيء أصلاً ولا على التوحيد ولا على إبطاله لكن اتفقت الديانات على تخطئته وتكفيره والبراءة منه إذا لم يعتقد ديناً فبيناه بطلب موافق جميع الديانات حصل على مخالفة جميعها وهكذا فليكن السعي المضلل وكذلك طبائع جميع الناس مؤثرة للذات كارهة لما يتلزمه أهل الشرائع والفلاسفة فبطل تعلقهم بشيء مجمع عليه ولم يحصل إلا على طمع خائب مخالفاً لجميع الديانات غير متعلق بدليل لا عقلي ولا سمعي وقد قلنا أن العقول لا توجب شيئاً ولا تقبحه ولا تحسنه وبرهان ذلك أن جميع أهل العقول إلا يسيراً فإنهم أصحاب شرايع وقد جاءت الشرائع بالقتل وأخذ المال وضرب الإنسان وذبح الحيوان فما قال قط أصحاب العقول أنها جاءت بخلاف ما في العقول ولا ادعى ذلك إلا أقل الناس ومن ليس عقله عياراً على عقل غيره ولو كان ذلك واجباً في العقول لوجده سائر أهل العقول كما قالوا هم سواء سواء فصح أن دعواهم على العقول كاذبة في باب التقبيح والتحسين مجلة وهذا أكسر عام لنفس أقوالهم والحمد لله رب العالمين.
ثم نذكر إن شاء الله تعالى البراهين على إبطال حججهم الشغبة المموه بها وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: أما احتجاجهم بأن قالوا وجدنا أهل الديانات والآراء والم قال ات كل طائفة تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بينهم فصح أنه ليس ههنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولا اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوا بحواسهم وبداية عقولهم وكما هم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لائح واللائح الحق على مرور الزمان وكثرة البحث وطول المناظرات قالوا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس ظاراً فيعادنوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة تتبع أما ما نشأت عليه وأما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من كل ملة ونحلة وأن كان فيها ما لا يشك في بطلانه وسخافته.
قال أبو محمد: هذه جمل نحن نبين كل عقد منها ونوفيها حقاً من البيان بتصحيح أو إفساد بما لا يخفي على أحد صحته وبالله تعالى التوفيق أما قولهم أن كل طائفة من أهل الديانات والآراء يناظر فينتصف وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على قدر قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب والتمويه فقول صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه على ما ادعوه من تكافؤ الأدلة أصلاً لأن غلبة الوقت ليست حجة ولا يقنع بها عالم مخقق وإن كانت له ولا يلتفت إليها وإن كانت عليه وإنما نحتج بها ويغضب منها أهل المحرفة والجهال وأهل الصياح والتهويل والتشنيع القانعون بأن يقال غلب فلان فلاناً وأن فلاناً لنظار جدال ولا يبالون بتحقيق حقيقة ولا بإبطال باطل فصح أن تغالب المتناظرين لا معنى له ولا يجب أن يعتد به لا سيما تجادل أهل زماننا الذين أمالهم نوب معدودة لا يتجاوزونها بكلمة وإما أن يغلب الصليب الرأس بكثرة الصياح والتوقح والتشنيع والجعات وأما كثير الهدر قوي على أن يملأ المجلس كلاماً لا يتحصل منه معنى وأما الذي يعتقده أهل التحقيق الطالبون معرفة الأمور على ما هي عليه فهو أن يبحثوا فيما يطلبون معرفته على كل حجة احتج بها أهل فرقة في ذلك الباب فإذا نقضوها ولم يبقوا منها شيئاً تأملوها كلها حجة حجة فميزوا الشغبي منها والأقناعي فأطرحوهما وفتشوا البرهاني على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وفي كتابنا هذا وفي كتابنا الموسوم بالأحكام في أصول الأحكام فإن من سلك تلك الطريق التي ذكرنا وميز في المبداء ما يعرف بأول التمييز والحواس ثم ميز ما هو البرهان مما ليس برهاناً ثم لم يقبل إلا ما كان برهاناً راجعاً رجوعاً صحيحاً ضرورياً إلى ما أدرك بالحواس أو ببديهة التمييز وضرورة في كل مطلوب يطلبه فإن سارع الحق يلوح له واضحاً ممتازاً من كل باطل دون إشكال والحمد لله رب العالمين وأما من لم يفعل ما ذكرنا ولم يكن وكده إلا نصر المسألة الحاضرة فقط أو نصر مذهب قد الفه قبل أن يقوده إلى اعتقاده برهان فلم يجعل غرضه إلا طلب أدلة ذلك المذهب فقط فبعيد عن معرفة الحق من الباطل ومثل هؤلاء غروا هؤلاء المخاذيل فظنوا أن كل بحث ونظر مجراهما هذا المجرى الذي عهدوه ممن ذكرنا فضلوا ضلالاً بعيداً وأما قولهم فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولما اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل ما عليه برهان لايح فقول أيضاً مموه لأنه كله دعوى فاسدة بلا دليل وقد قلنا قبل في إبطال هذه الأقوال كلها بالبرهان بما فيه كفاية وهذا لا يمكن فيه تفصيل كل برهان على كل مطلوب لكن نقول جملة أن من عرف البرهان وميزه وطلب الحقيقة غير مايل بهوى ولا ألف ولا نفار ولا كسل فمضمون له تمييز الحق وهذا كمن سأل عن البرهان على أشكال أقليدس فإنه لا أشكال في جوابه عن جميعها بقول مجمل لكن يقال له سل عن شكل شكل تخبر ببرهانه أو كمن سأل ما النحو وأراد أن يوقف على قوانينه جملة فإن هذا لا يمكن بأكثر من أن يقال له هو بيان حركات وحروف يتوصل باختلافها إلى معرفة مراد المخاطب باللغة العربية ثم لا يمكن توقيفه على حقيقة ذلك ولا إلى إثباته جملة إلا بالأخذ معه في مسألة مسألة وهكذا في هذا المكان الذي نحن فيه لا يمكن أن نبين لك برهانها بحول الله تعالى وقوته ثم نقول لمن قال من هؤلاء أن ههنا قولاً صحيحاً واحداً لا شك فيه أخبرنا من أين عرفت ذلك ولعل الأمر كما يقول من قال أن جميع الأقوال كلها حق فإن قال لا لأنها لو كانت حقاً لكان محالاً ممتنعاً لأن فيها إثبات الشيء وإبطاله معاً ولو كان جميعها باطلاً لكان كذلك أيضاً سواء سواء وهو محال ممتنع لأنه فيه أيضاً إثبات إثبات الشيء وإبطاله معاً ولو كان جميعها باطلاً لكان كذلك أيضاً سواء سواء وهو محال ممتنع لأن فيه أيضاً إثبات الشيء وإبطاله معاً وإذا ثبت إثبات الشيء بطل إبطاله بلا شك وإذا بطل إثباته ثبت إبطاله بلا شك فإذ قد بطل هذان القولان بيقين لم يبق بلا شك إلا أن فيه حقاً بعينه وباطلاً بعينه قلنا له صدقت وإذا الأمر كما قلت فإن هذا العقل الذي عرفت به في تلك الأقوال قولاً صحيحاً بلا شك به تميز ذلك القول الصحيح بعينه مما ليس بصحيح لأن الصحيح من الأقوال يشهد له العقل والحواس ببراهين ترده إلى العقل وإلى الحواس رداً صحيحاً وأما الباطل فينقطع ويقف قبل أن يبلغ إلى العقل وإلى الحواس وهذا بين والحمد لله رب العالمين.
وأما من أبطل أن يكون في الأقوال كلها قول صحيح فقد أخبرنا أنه مبطل للحقائق كلها متناقض لأنه يبطل الحق والباطل معاً وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو كان ههنا قول صحيح لما أشكل على أحد ولا اختلف فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم ولا في الحساب فإن هذا قول فاسد لأن أشكال الشيء على من أشكل عليه إنما معناه أنه جهل حقيقة ذلك الشيء فقط وليس جهل من جهل حجة على من علم برهان هذا أنه ليس في العالم شيء إلا ويجهله بعض الناس كالمجانين والأطفال ومن غمرة الجهال والبلدة ثم يتزيد الناس في الفهم فيفهم طائفة شيئاً لا تفهمه المجانين وتفهم أخرى ما لا تفهمه هؤلاء وهكذا إلى أرفع مراتب العلم فكلما اختلف فيه فقد واقف على الحقيقة فيه من فهمه وإن كان خفي على غيره هذا أمر مشاهد محسوس في جميع العلوم وآفة ذلك ما قد ذكرنا قبل وهو إما قصور الفهم والبلادة وإما كسل عن تقصي البرهان وإما لألف أو نفار قعدا بصاحبهما عن الغاية المطلوبة أو تعدياها وهذه دواعي الاختلاف في كل ما اختلف فيه فإذا ارتفعت الموانع لاح البرهان بيقين فبطل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين.
وأما قولهم كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وفي الحساب وفيما أدركوه ببداية عقولهم فقول غير مطرد والسبب في انقطاع اطراده هو أنه ليس في أكثر ما يدرك بالحواس وبداية العقول شيء يدعو إلى التنازع ولا إلى تقليديتها لك في نصره أو إبطاله وكذلك في الحساب حتى إذا صرنا إلى ما فيه تقليد مما يدرك بالحواس أو بأوائل التمييز وجد فيه من التنازع والمكابرة والمدافعة وجحد الضرورات كالذي يوجد فيما سواه كمكابرة النصارى واستلاكهم في أن المسيح له طبيعتان ناسوتية ولاهوتية ثم منهم من يقول أن تلك الطبيعتين صارتا شيئاً واحداً وصار اللاهوت ناسوتاً تاماً محدثاً مخلوقاً وصار الناسوت ألهاً تاماً خالقاً غير مخلوق ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج العرض بالجوهر ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة وهذا حمق ومحال يدرك فساده بأول العقل وضرورته وكما تهالكت المنانية على أن الفلك في كل أفق من العالم لا يدور إلا كما يدور الرحى وهذا أمر يشاهد كذبه بالعيان وكما تهالكت اليهود على أن النيل الذي يحيط بأرض مصر وزويلة ومعادن الذهب وأن الفرات المحيط بأرض الموصل مخرجهما جميعاً من عين واحدة من المشرق وهذا كذب يدرك بالحواس وكما تهالكت المجوس على أن الولادة من إنسان وأن مدينة واقفة من بنيان بعض ملوكهم بين السماء والأرض وكتهالك جميع العامة على أن السماء مستوية كالصحيفة لا مقبية مكورة وأن الأرض كذلك أيضاً وأن الشمس تطلع على جميع الناس في جميع الأرض في ساعة واحدة وتغرب عنهم كذلك وهذا معلوم كذبه بالعيان وكتهالك الأشعرية وغيرهم ممن يدعي العلم والتوفيق فيه أن النار لا حر فيها وأن الثلج لا برد فيه وأن الزجاج والحصا لهما طعم ورائحة وأن الخمر لا يسكر وأن ههنا أحوالاً لا معدومة ولا موجودة ولا هي حي ولا هي باطل ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي معلومة ولا مجهولة وهذا كله معلوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول العقل وضرورته وتخليط لا يفهمه أحد ولا يتشكل في وعم أحد ولو أننا شاهدنا أكثر من ذكرنا لما صدقنا أن من له مسكة عقل ينطلق لسانه بهذا الجنون وكتهالك طوائف على أن اسمين يقعان على مسميين كل واحد من ذينك المسميين لا ههو الآخر ولا هو غيره وكالسوفسطائية المنكرة للحقائق وأما الحساب فقد اختلف له في أشياء من التعديل ومن قطع الكواكب وهل الحركة لها أو لأفلاكها وأما الذي لا يخلو وقت من وجوده فخطأ كثير من أهل الحساب في جمع الأعداد الكثيرة حتى يختلفوا اختلافاً ظاهراً حتى إذا حقق النظر يظهر الحق من الباطل وهذا نفس ما يعرض في كل ما يدرك بالحواس فظهر بطلان تمويههم وتشبيهم جملة والحمد لله رب العالمين وصح ما أنكروه من أن كثيراً من الناس يغيبون عن اعتقاد ما شهدت له الحواس وينكرون أوائل العقول ويكابرون الضرورات أما أنهم كسلوا عن طلب البرهان وقطعوا بظنونهم وأما لأنهم زلوا عن طريق البرهان وظنوا أنهم عليه وأما لأنهم ألفوا ما مالت إليه أهواؤهم لألف شيء ونفار عن آخر وأما قولهم وللاح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات في قال لهم وبالله تعالى التوفيق نعم قد لاح الحق وبان ظن الباطل وأن كان كل طائفة تدعيه فإن من نظر على الطريق التي وصفنا صح عنده المحق المدعي من المبطل وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعادنوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخر بلا معنى فقول فاسد لأنا قد رأيناهم أتوا أشياء بدا الحق فيها إلى الانس فعانده كثير منهم وبذلوا مهجعهم فيه وكأنهم ما شاهدوا الأمر الذي ملأ الأرض من المقاتلين الذين يعرفون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم أنهم على باطل يقتتلون ويعترفون بأنهم بلغوا مهجهم ودماءهم وأموالهم وأديانهم ويوتمون أولادهم ويرملون نساءهم في قتال عن سلطان غائب عن ذلك القتال لا يرجون زيادة درهم ولا يخاف كل امرئ منهم في ذاته تقصيراً به لو لم يقاتل أو لم يروا كثيراً من الناس يأكلون أشياء يوقنون بأنهم يستضرون بها ويكثرون شرب الخمر وهم يقرون أنها قد آذنتهم وأفسدت أمزجتهم وأنها تؤديهم إلى التلاف وهم يقرون مع ذلك أنهم عاصون لله تعالى وكم رأينا من الموقنين بخلود العاصي في النار المحقيين لذلك يقر على نفسه أنه يفعل ما يخلد به في النار فإن قالوا أن هؤلاء يستلذون ما يفعلون من ذلك قلنا لهم أن استلذاذ من يدين بشيء ما يبصره لما يدين به وتعصبه له أشد من استلذاذ الأكل والشرب لما يدري أنه يبلغه من ذلك نقول لهم أخبرونا عن قولكم هذا أنه ليس ههنا قول سطعت حجته ولو كان لما اختلف الناس فيه أحق وهي هذه القضية التي قطعتم بها وهل قولك هذا ظاهر الحجة متيقن الحقيقة أم لا فإن قالوا لا أقروا بأن قولهم لم تصح حجته ولا لاح برهانه وأنه ليس حقاً ما قال وه وإن قالوا بل هو حق قد لاحق حجته قلنا لهم فكيف خولفتم في شيء لاحت حجته حتى صار أكثر أهل الأرض يعمون عماً لا شك فيه عندكم وعن ما لاح الحق فيه حتى اعتقدوا فيكم الضلال والكفر وإباحة الدم وهذا هو نفس ما أنكروا قد صرحوا أنه حق والحمد لله رب العالمين وأما احتجاجهم بانت قال من ينتقل من مذهب إلى مذهب وتهالكه في إثباته ثم تهالكه في إبطاله ورومهم أن يفسدوا بهذا جميع البراهين فليس كما ظنوا لأن كل متنقل من مذهب إلى مذهب فلا يخلو ضرورة من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون انتقل من خطأ إلى خطأ أو من خطأ إلى صواب أو من صواب إلى خطأ وأي ذلك كان فإنما أتى في الانت قال ين الاثنين الذين هما إلى الخطأ من أنه لم يطلب البرهان طلباً صحيحاً بل عاجزاً عنه بأحد الوجوه التي قدمنا قبل وأما الانت قال إلى الصواب فإنه وقع عليه بحد صحيح وطلب صحيح أو بحد وبحث وهذا يعرض فيما يدرك بالحواس كثيراً فيرى الإنسان شخصياً من بعيد فيظنه فلاناً ويحلف عليه ويكابر ويجرد ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وقد يشم الإنسان رائحة يظنها من بعض الروائح ويقطع على ذلك ويحلف عليه مجداً ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وهكذا في الذوق أيضاً وقد يعرض هذا في الحساب فقد يغلط الحاسبون في جمع الأعداد الكثيرة فيقول أحدهم أن الجميع من هذه الأعداد كذا وكذا ويخالفه غيره في ذلك حتى إذا بحثوا بحثاً صحيحاً صح الأمر عندهم وقد يعرض هذا للإنسان فيما بين يديه يطلب الشيء بين متاه طلباً مردداً المرة بعد المرة فلا يجده ولا يقع عليه وهو بين يديه ونصب عينيه ثم يجده في أقرب مكان منه وقد يكتب الإنسان مستملياً أو يقرأ فيصحف ويزيد وينقص وليس هذا بموجب ألا يصح شيء بإدراك الحواس أبداً ولا إلا يصح وجود الإنسان شيئاً افتقده أبداً ولا ألا يصح جمع الأعداد أبداً ولا ألا يصح حرف مكتوب ولا كلمة مقروءة أبداً لا مكان وجود الخطأ في بعض ذلك لكن التثبيت الصحيح يليح الحق من الباطل وهكذا كل شيء أخطأ فيه ولا بد من برهان يليح الحق فيه من الباطل ولا يظن جاهل أن هذه المعاني كلها حجة لمبطلي الحقائق بل هي برهان عليهم لائح قاطع لأن كل ما ذكرنا لا يختلف حس أحد في أن كل ذلك إذا فتش تفتيشاً صحيحاً فإنه يقع اليقين والضرورة بأن الوهم فيها غير صحيح وأن الحق فيها ولا بد فبطل تعلقهم بمن رجع من مذهب إلى مذهب ولم يحصلوا إلا على أن قالوا أنا نرى قوماً يخطئون فقلنا لهم نعم ويصيب آخرون فإقرارهم بوجود الخطأ موجب ضرورة أن ثم صواباً لأن الخطأ هو مخالفة الصواب فلو لم يكن صواباً لم يكن خطأ ولو لم يكن برهان لم يكن شغب مخالف للبرهان ثم نعكس استدلالهم عليهم فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد فإذ قد وجدتم من يعتقد ما أنتم عليه ثم يرجع عنه فهلا قلتم أن مذهبكم هذا كالأقوال الأخر التي أبطلتموها من أجل هذا الظن الفاسد في الحقيقة وهو في ظنكم صحيح فهو لكم لازم لأنكم صححتموه ولا يلزمنا لأننا لا نصححه ولا صححه برهان.
قال أبو محمد: وبهذا الذي قلنا يبطل ما اعترضوا به من اختلاف المدعين الفلسفة والمنتحلين الكلام في مذاهبهم وما ذكروه من اختلاف المختارين أيضاً في اختيارهم لأننا لم ندع أن طبائع الناس سليمة من الفساد لكنا نقول أن الغالب على طبائع الناس الفساد فإن المنصف لنفسه أولاً ثم لخصمه ثانياً الطالب بالبرهان على حقيقة العارف به فدليل برهاننا على هذا ما وجدناه من اختلاف الناس واختلافهم كثيراً دليل على كثرة الخطاء منهم وقد وضحنا أن وجود الخطاء يقتضي ضرورة وجود الصواب منهم ولا بد وليس اختلافهم دليلاً على أن لا حقيقة في شيء من أقوالهم ولا على امتناع وجود السبيل إلى معرفة الحق وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأنه لا يخلو من حقق شيئاً من الديانات والم قال ات والآراء من أن يكون صح له بالحواس أو بالعقل أو ببعضها أو ببديهة العقل وضرورته أو بدليل من الأدلة غير هذين وأنه لو صح بالحواس أو بالعقل لم يختلف فيه وإلزامهم في الدليل مثل ذلك إلى آخر كلامهم فهذا كله مقرر قد مضي الكلام فيه وقد أريناهم أنه قد يختلف الناسفيما يدرك بالحواس وببديهة العقل كاختلافهم في الشخص يرونه ويختلفون فيه ما هو وفي الصوت يسمعونه بينهم فيما هو ويختلفون فيه وكأقوال النصارى وغيرهم مما يعلم بضرورة العقل فساده ثم نقول لهم أن أول المعارف هو ما أدرك بالحواس وببديهة العقل وضرورته ثم ينتج براهين راجعة من قرب أو من بعد إلى أول العقل أو إلى الحواس فما صححته هذه البراهين فهو حق وما لم تصححه هذه البراهين فهو غير صحيح ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق قولكم هذا بأي شيء علمتموه بالعقول أم بالحواس أو بدليل غيرهما فإن علمتموه بالحواس أو العقول فكيف خولفتم فيه وإن كنتم عرفتموه بدليل فذلك الدليل بما عرفتموه أبالحواس أم بالعقول أم بدليل آخر وهكذا أبداً وكل سؤال أفسد حكم نفسه فهو فاسد وعلى أن هذا لهم لازم لأنهم صححوه ومن صحح شيئاً لزمه ونحن لم نصحح هذا السؤال فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه بما دفعه عنا وأما هم فلا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم نسألهم عن علمهم بما يدعون صحته أتعلمونه أم لا فإن قالوا لا نعلمه بطل قولهم إذا قروا بأنهم لا يعلمونه وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم علمتم علمكم بذلك أم بغير علم وهكذا أبداً فهذا أمر قد أحكمنا بيان فساده في باب أفردناه في ديواننا هذا على أصحاب معمر في قولهم بالمعاني وعلى الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة في قولهم بالأحوال وإنما كلامنا هذا مع من يقول بتكافؤ الأدلة.
قال أبو محمد: وهذا السؤال نفسه مردوده عليهم كما هو ونسألهم أتعلمون صحة مذهبكم هذا أم لا فإن قالوا لا أقروا بأنهم لا يعلمون صحته وفي هذا إبطاله والله وإنما هو ظن لا حقيقة وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم تعلمونه أم بغير علم وهكذا أبداً إلا أن أن السؤال لازم لهم لأنهم صححوه ومن صحح شيئاً لزمه وأما نحن فلم نصححه فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه في بابه بأننا نعلم صحة علمنا بعلمنا ذلك بعينه لا بعلم آخر ونعقل أن لنا عقلاً بعقلنا ذلك بنفسه وإنما هو سؤال من يبطل الحقائق كلها لا من يقول بتكافؤ الأدلة فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أنتم قد أثبتم الحقائق وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها وهم السوفسطائية وعلمتم أنهم مخطئون في ذلك ببراهين وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها ما أبطلتموه أو شككتم فيه من أن في مذاهب الناس مذهباً صحيحاً ظاهر الصحة فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال لكل ذي ملة أو نحلة أو مذهب لعلك مخطئي وأنت تظن أنك مصيب لأن هذا ممكن في كثير من الأقوال بلا شك أخبرنا أفي الناس من فسد دماغه وهو يظن أنه صحيح الدماغ فإن أنكر ذلك كابر ودفع المشاهدات وإن قال هذا ممكن قيل له لعلك أنت الآن كذلك وأنت تظن أنك سالم الدماغ فإن قال لا لأن هاهنا براهين تصحح أني سالم الذهن قيل له وهاهنا براهين تصحح الصحيح من الأقوال وتبينه من الفاسد فإن سأل عنها أجبت بها في مسألة مسألة.
قال أبو محمد: فإذا قد بطل بيقين أن تكون جميع أقوال الناس صحيحة لأن في هذا أن يكون الشيء باطلاً وحقاً معاً وبطل أن تكون كلها باطلاً لأن في هذا أيضاً إثبات الشيء وضده معاً لأن الأقوال كلها إنما هي نفي شيء يثبته آخر من الناس فلو كان كلا الأمرين باطلاً لبطل النفي في الشيء وإثباته معاً وإذا بطل إثباته صح نفيه وإذا بطل نفيه صح إثباته فكان يلزم من هذا أيضاً أن يكون الشيء حقاً باطلاً معاً ثبت بيقين أن في الأقوال حقاً وباطلاً وإذ هذا لا شك فيه فبالضرورة نعرف أن بين الحق والباطل فرقاً موجوداً وذلك الفرق هو البرهان فمن عرف البرهان عرف الحق من الباطل وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنكم محيلون علي براهين تقولون أن ذكرها جملة لا يمكن وتأمرون بالجد في طلبها فما الفرق بينكم وبين دعاة الإسماعيلية والقرامطة الذين يحيلون على مثل هذا قلنا لهم الفرق بيننا وبينهم برهانان واضحان أحدهما أن القوم يأمرون باعتقاد أقوالهم وتصديقهم قبل أن يعرفوا براهينهم ونحن لا نفعل هذا بل ندعوا إلى معرفة البراهين وتصحيحها قبل أن نصدق فيما نقول والثاني أن القوم يكتمون أقوالهم وبراهينهم معاً ولا يبيحونها للسبر والنظر ونحن نهتف بأقوالنا وبراهيننا لكل أحد وندعوا إلى سبرها وتقييسها وأخذها إن صحت ورفضها إن لم تصح والحمد لله رب العالمين ولسنا نقول إننا لا نقدر أن نحد براهيننا بحد جامع مبين لها بل نقدر على ذلك وهو أن البرهان المفرق بين الحق والباطل في كل ما اختلفوا فيه أن يرجع رجوعاً صحيحاً متيقناً إلى الحواس أو إلى العقل من قرب أو من بعد رجوعاً صحيحاً لا يحتمل ولا يمكن فيه إلا ذلك العمل فهو برهان وهو حق متيقن وإن لم يرجع كما ذكرنا إلى الحواس أو إلى العقل فليس برهاناً ولا ينبغي أن تشتغل به فإنما هو دعوى كاذبة وبالله تعالى التوفيق وبهذا سقط القياس والتقليد لأنه لا يقدر القائلون بهما على برهان في تصحيحهما يرجع إلى الحواس أو إلى العقل رجوعاً متيقناً.
قال أبو محمد: ونحن نقول قولاً كافياً بعون الله وقوته وهو أن أول كل ما اختلف فيه من غير الشريعة ومن تصحيح حدوث العالم وأن له محدثاً واحداً لم يزل ومن تصحيح النبوة ثم تصحيح نبوة محمد ﷺ فإن براهين كل ذلك راجعة رجوعاً صحيحاً ضرورياً إلى الحواس وضرورة العقل فما لم يكن كذا فليس بشيء ولا هو برهاناً وإن كان ما اختلف فيه من الشريعة بعد صحة جملها فإن براهين كل ذلك راجعة إلى ما أخبر به رسول الله ﷺ عن الله تعالى إذ هو المبعوث إلينا بالشريعة فما لم يكن هكذا فليس برهاناً ولا هو شيئاً وفي أول ديواننا هذا باب في ماهية البراهين الموصلة إلى معرفة الحقيقة في كل ما اختلف الناس فيه فإذا أضيف إلى هذا ارتفع الإشكال والحمد لله رب العالمين.
الكلام في الألوان
قال أبو محمد: الأرض غبراء وفيها حمراء بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة والماء كله أبيض إلا أن يكتسب لوناً بما استضاف إليه لفرط صفائه فيكتسى لون إنائه أو ما هو فيه وإنما قلنا أنه أبيض لبراهين أحدها أنه إذا صب في الهواء بهرق ظهر أبيض صافي البياض والثاني في أنه إذا جمد فصار ثلجاً أو برداً ظهر أبيض شديد البياض وأما الهواء فلا لون له أصلاً ولذلك لا يرى لأنه لا يرى إلا اللون وقد زعم قوم أنه إنما لا يرى لانطباقه على البصر وهذا فاسد جداً وبرهان أن المرء يغوص في الماء الصافي ويفتح عينيه فيه فيرى الماء وهو منطبق على بصره لا حائل بينهما ولا يرى الهواء في تلك الحال وإن استلقي على ظهره في الماء وهذا أمر مشاهد وأما الذي يرى عند دخول خط ضياء الشمس من كوة فإنما هو أن الأجسام تنحل منها أبداً أجزاء صغار وهي التي تسمي الهباء فإذا انحصر خط ضياء الشمس وقع البصر على تلك الأجزاء الصغار وهي متكاثفة جداً ولونها الغبرة فهي التي ترى لا ما سواها ومن تأمل هذا عرفه يقيناً وإن البيوت مملوءة من هذا الضياء المنحل من الأرض والثياب والأبدان وسائر الأجرام ولكن لدقتها لا ترى إلا أن انحصر خط الشمس فيرى ما في ذلك الانحصار منها فقط وأم النار فلا ترى أيضاً لأنه لا لون لها في فلكها وأم المرئية عندنا في الحطب والفتيلة وسائر ما يحترق فإنما هي رطوبات ذلك المحترق يستحيل هواء فيه نارية فتكتسب ألواناً بمقدار ما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء ولازوردية وحمراء وبيضاء وصفراء وبالله تعالى التوفيق وهذا يعرض للرطوبات المتولد منها دائرة قوس قزح.
قال أبو محمد: أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان على أنه لا يرى إلا الألوان وإن كل ما يرى فليس إلا لوناً وحدوا بعد ذلك البياض بأنه لون يفرق البصر وحدوا السواد بأنه لون قال أبو محمد: وهذا حد وقعت فيه مسامحة وإنما خرجوه على قول العامة في لون السواد ومعنى يجمع البصر أنه يقبضه في داخل الناظر ويمنع من انتشاره ومن تشكل المرئيات وإذ هذا معنى القبض بلا شك فهو معنى منع البصر والإدراك وكفه ومن هذا سمى المكفوف مكفوفاً فإذا السواد يمنع البصر من الانتشار ويقبضه عن الانبساط ويكفه عن الإدراك وهذا كله معنى واحد وإن اختلفت العبارات في بيانه فالسواد بلا شك غير مرئي إذ لو رؤى لم يقبض خط البصر إذ لا رؤية إلا بامتداد البصر فإذ هو غير مرئي فالسواد ليس لوناً إذ اللون مرئي ولا بد ما لم ير فليس لوناً وهذا برهان عقلي ضروري وبرهان آخر حسي وهو أن الظلمة إذا أطبقت فلا فرق حينئذ بين المفتوح العينين السالم الناظرين وبين الأعمى المنطبق والمسدود العينين سداً أو كفاً فإذ ذلك كذلك فالظلمة لا ترى ومن الباطل الممتنع أن تكون ترى الظلمة وبالحس نعلم أن المنطبق العينين فيها بمنزلة واحدة من عدم الرؤية ومع المفتوح العينين فيها والظلمة هي السواد نفسه فمن ادعى أنهما متفاير إن فقد كابر العينان وادعى ما لا يأتي عليه بدليل أبداً ونحن نجد أن لو فتح في حائط بيت مغلق كوتان ثم جعل على أحدهما ستر أسود وتركت الأخرى مكشوفة لما فرق الناظر من بعد بينهما أصلاً ولو جعل على أحدهما ستر أحمر أو أصفر أو أبيض لتبين ذلك للناظر يقيناً من بعد أو قرب وهذا بيان أن السواد والظلمة سواء وبرهان أخر حسي وهو أن خطوط البصر إذ استوت فلا بد من أن تقع على شيء ما لم تقف فيه مانع من تماديها ونحن نشاهد من بين يديه ظلمة أو هو فيها لا يقع بصره على حائط إن كان في الظلمة وسواء كان فيها حائط مانع من تمادي خط البصر أو لم يكن فصح يقيناً أن الظلمة لا ترى بل هي مانعة من الرؤية والظلمة هي السواد والسواد هو الظلمة لم يختلف قط في هذا اثنان لا بطبيعة ولا بشريعة ولا في معنى الله ولا بالمشاهدة فقد صح أن السواد لا يرى أصلاً وأنه ليس لوناً.
قال أبو محمد: وإنما وقع الغلط على من ظن أن السواد يرى لأنه أحس بوقوع خطوط البصر على ما حوالي الشيء الأسود من سائر الألوان فعلم بتوسط إدراكه ما حوالي الأسود أن بين تلك النهايات شيئاً خارجاً عن تلك الألوان فقدر أنه يراه ومن هاهنا عظم غلط جماعة ادعوا بظنونهم من الجهة التي ذكرنا أنهم يرون الحركات والسكون في الأجرام والأمر في كل ذلك وفي الأسود واحد ولا فرق فإن قال قائل أنه إن كان في جسم الأسود زيادة ناتئة سوداء كسائر جسده رأيناها فلو لم تر لم تعلم بنتوء تلك الهيئة الناتئة له على سطح جسده قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا أيضاً وهم لأنه لما لم يمتد خط البصر عند قبض تلك الهيئة الناتئة له وامتدت سائر الخطوط إلى أبعد من تلك المسافة وعلمت النفس بذلك توهم من لم يحقق أن هذه رؤية وليست كذلك وتوهموا أيضاً أنهم يرون السواد ممازحاً لحمرة أو لغبرة أو لخضرة أو لصفرة أو لزرقة فإذا كان هذا هكذا فإن البصر يرى ما في ذلك السطح من هذه الألوان على حسب قوتها وضعفها فقط فيتوهمون من ذلك أنهم رأوا السواد ويتوهمون أيضاً أنهم يرونه لأنهم قالوا نحن نميز الأسود البراق البصيص واللمعان من الأسود الأكدر الغليظ.
قال أبو محمد: وهذا مكان ينبغي أن نتثبت فيه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأملاس هو استواء أجزاء السطح والخشونة هي تباين أجزاء السطح وقد نجد أملس لماعاً وأملس كدراً فإذ ذلك كذلك فالبصيص واللمعان شيء أخير غير استواء أجزاء السطح وإذ هو كذلك وهو مرئي فالبصيص بلا شك لون آخر محمول في الملون بالحمرة أو الصفرة أو سائر الألوان وفيما عري من جميع الألوان سواء فإذا قلنا أسود لماع فإنما نريد أنه ليس فيه من الألوان إلا اللمعان فقط فهو لون صحيح وقد عرى من الحمرة ومن الصفرة ومن البياض والخضرة والزرقة ومما تولد من امتزاج هذه الألوان ولعل الكدرة أيضاً لون آخر مرئي كاللمعان وهي أيضاً غير سائر الألوان فهذا ما لا يوجد ما يمنع منه بل الدليل يثبت أن الكدرة أيضاً لون لون وهو وقوع البصر عليها وهو لا يقع إلا على لون ومن أبى من هذا كلفناه أن يحد لنا اللمعان والكدرة فإنه لا يقدر على شيء أصلاً غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنا نرى الثوب الأسود يستبين نسج خيوطه ونتوء ما نتأ منها وانخفاض ما انخفض فلولا أنه يرى ما علم ذلك كله فالجواب وبالله تعالى التوفيق أنا قد علمنا أن خطوط البصر تخرج من الناظر ولها مساحة ما وبعضها أطول من بعض بلا شك لأن الخطوط الخارجة من البصر إلى السماء أطول من الخطوط الخارجة من البصر إلى الجليس لك بلا شك فلما خرجت خطوط البصر إلى الثوب المذكور انقطع تمادي بعضها أكثر من تمادي البعض فبالحس علمنا هذا لا لأن بصرنا وقع على لون أصلاً وأيضاً فإن النور هو اللون الذي طبعه بسط قوة الناظر واستخراج قوى البصر حتى أنه إذا وافق ناظراً ضعيف البنية بطبعه أو بعرض اجتلب جميعه واستلبه كله أو اقتطفه فعلى قدر قوة النور في اللون المرئي وضعفه فيه يكون وقوع البصر عليه هذا أمر مشاهد بالعيان فكلما قل النور في اللون كان وقوع البصر عليه أضعف وكانت الرؤية له أقل حتى إذا عدم النور جملة ولم يبق منه شيء فقد بطل بالضرورة أن يمتد خطوط البصر إليه وأن يقع الناظر عليه إذ لا نور فيه ولا يختلف ذو حس في العالم في أن السواد المحض الخالص ليس فيه شيء من النور فإذ لا شك في هذا فلا شك في أنه لا يرى وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن جبلاً ذا لون ما وأرضاً ذات لون ما وفيهما غاران مظلمان لا شك أن كل ناظر إليهما فإنه لا يرى إلا ما حول الغارين وأنه لا يرى ما ضمه خط الغارين فإذ هذه كلها براهين ضرورية مشاهدة حسية عقلية فالبرهان لا يعارضه برهان أصلاً والبرهان لا يعارض بالدعوى ولا بالظنون والحمد لله رب العالمين وأما من كلام الله تعالى فالله يقول " ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها " وقوله تعالى " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " فصح يقيناً أن الظلمة مانعة من النظر والرؤية جملة وهو السواد بلا شك فهو لا يرى ولا خلاف في أن البصر القليل يداوى بالثوب الأسود والقعود في الظلمة وليس ذلك غلا لمنعه من امتداد خط بصره فيكل بامتداده وبالله تعالى التوفيق فإن قيل السواد غير الظلمة قلنا إنا نجد الأرمد الشديد الرمد متى صار في بيت مظلم شديد الانطباق لا يدخله شيء من الضوء أمكنه فتح عينيه بحسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه ومتى جعلناه في بيت مضيء وعلى وجهه وعينيه ثوب كثيف جداً أسود أمكنه فتح عينيه حسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه وكانت حاله في تغطية وجهه بذلك الثوب كحاله في الظلمة التامة سواء سواء وكذلك يعرض للصحيح البصر في الحالتين المذكورتين ولا فرق ومتى جعلنا على بصر الأرمد ثوباً أبيض ألم ألماً شديداً كلله إذا نظر في الضوء ولا فرق فإن جعلنا على وجهه ثوباً أصفر ألم دون ذلك وإن كان أحمر ألم دون ذلك فإن كان أخضر ألم دون ذلك على قدرهما في اللون من ممازجة البياض له فصح أن السواد والظلام شيء واحد وقال بعض أصحابنا السواد غير الظلمة وهو لا يرى الآن الزنجي والغراب والثوب ليس شيء من ذلك أسود وكل ذلك يرى ولون كل ما ذكرنا لون غير السواد إلا أنه باسم السواد مجازاً وقال بعضهم السواد اسم مشترك يقع على الظلمة ويقع على لون الزنجي والغراب والثوب فكل ظلام سواد وليس كل سواد ظلاماً فإن عنيت بالسواد لون الزنجي والغراب والثوب فهو يرى وهو غير الظلمة وإن عنيت بالسواد الظلمة فهو لا يرى وقال بعضهم الظلمة لا ترى وليست سواداً أصلاً والسواد شيء آخر غير الظلمة وهو لون يرى وقال بعضهم الظلمة والسواد شيء واحد وكلاهما يرى وأقروا بأن الأعمى والأكمة والمفقوء العينين والمطبق العينين يرى الظلمة.
الكلام في المتوالد والمتولد
قال أبو محمد: الحيوان كله ينقسم أقساماً ثلاثة متوالد ولا بد ولا يتولد ومتولد ولا بد لا يتوالد وقسم ثالث يتوالد ويتولد أيضاً فأما المتولد المتوالد فكبنات ردان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكالجعلان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكثير من الحيوان المتولد في النبات وقد رأيناه يتسافد ومثل القمل فإنا قد شاهدناه يخرج من تحت الجلد يانا ويحدث في الرؤوس وقد يتوالد وقد نجد بعضه إذا قطع مملوء بيضاً وأما المتولد الذي لا يتوالد فالحيوان المتولد في أصول أشفار العينين وأصول شعر الشارب واللحية والصدر والعانة وهو ذو أرجل كثيرة لا يفارق موضعه وما علمناه يتوالد أصلاً ومثل الصفار المتولد في البطن وشحمة الأرض وكل هذا لا نعلمه يتوالد البتة وقد شاهدنا ضفادع صغاراً تتولد من ليلتها فتصبح مناقع المياه منها مملوءة ومنها الثلماندرية وهو حيوان كبير يشبه الجراذين الصغار بطيئة الحركة وحيوانات كثيرة منها صغير مفرط الصغر يكاد لصغره لا يتجزأ مثلما كثيراً رأيناه في الدوى والدفاتر وهو سريع المشي جداً ومنها السوس المتولد في الباقلا والدود المتولد في الجراحات وفي الحمص والبلوط وفي التفاح وبين الحشيش وبين الصنوبر وفي الكنف وهي ذوات الأذناب والحباحب المتولد في الخضر وهو في غاية الحسن ومنه ما يضيء بالليل كأنه شرارة نار والدود ذوات الأرجل الكثيرة لذاراريح وهذا كثير لا يحصيه لا خالقه عز جل ومنها الضفادع والحجازب فقد صح عندنا يقيناً لا مجال للشك فيه أنها تتولد في منافع المياه دويبات صغار ملس شديدة السواد ذوات أذناب تمشي عندنا ثم صح عندنا كذلك أنها تكبر فتقطع أذنابها وتتبدل ألوانها وتستحيل أشكالها وتعظم فتصير ضفادع ثم تزيد كبراً واستحالة ألوان فتصير حجازب.
قال أبو محمد: قد رأيتها في جميع تنقلها كما وصفنا وقد عرض علينا في منافع المياه خطوط ظاهرة قيل لنا أنها بيض الضفادع وأما الذباب فقد شاهدناها عياناً تتناكح والأنثى منها هي الكبار والذكور هي الصغار وشاهدنا البراغيث تتناكح أيضاً والكبار هي الأنثى والذكور هي الصغار نشاهد ذلك بأن الأعلى هو الصغير أبداً ونجد الأنثى مملوءة بيضاً إذا وضعت فتلقي في قال أبو محمد: وقد رأينا ذباباً صغيراً جداً وذباباً كباراً مفرط الكبر وشاهدنا بأبصارنا الدور الطويل الذنب المتولد في الكنف وزبول البقر والغنم يستحيل فيصير فراشاً طياراً مختلف الألوان بديع الخلقة من ابيض وأصفر فاقع وأخضر ولازوردي منقط ولا ندري كيف الحال في العقارب والعناكب والرتيلات والبقوقات والدبر إلا أننا ندري أن دود الحرير يتوالد يتسافد الذكور منها والأناث وتبيض ثم تحضن بيضها هذا ما لا خلاف فيه وما رأى أحد قط دود حرير يتولد من غير بيضه وكذلك النمل فإنه يتوالد وقد رأينا بيضه والعرب تسميه المازن وكذلك النحل يتوالد ويوجد في مواضع من بنائه في تضاعيف القبر الذي فيه العسل وكذلك الجراد والعرب تسميه بيضة الصرد.
قال أبو محمد: وما رأى أحد قط نحلاً يتولد ولا نملاً يتولد ولا جراداً يتولد إلا في أكذوبات لا تصح وأما سائر الحيوان فمتوالد ولا بد من مني أو بيض فكل ذي أذن بارزة يلد طائراً كان أو غير طائر كالخفاش وغيره وكل ما ليس له أذن بارزة فهو يبيض طائراً كان أو غير طائر كالحيات والجراذين والوزغ وغير ذلك.
قال أبو محمد: فطلبنا أن نحد حداً يجمع ما يتولد دون ما يتوالد أو ما يتوالد دون ما يتولد فلم نجد إلا أننا رأينا كل ذي عظم وفقارات لا سبيل البتة إلى أن يوجد من غير تناكح كحيوان البحر الذي له العظم والفقارات ورأينا ما لا عظم له ولا فقار فمنه ما يتولد ولا يتوالد ومنه ما يتولد ويتوالد معاً وكل ذلك خلق الله عز وجل يخلق ما يشاء كما شاء لا إلى إلا هو وليست القدرة في الخلق في خلق ما خلقه الله عز وجل حيواناً ذا أربع أو ذا ريش من بيضة أو من مني بأعظم من القدرة من خلقها من تراب دون توسط بيضة ولا مني ولا البرهان عن الصنع والابتداء في إحداهما بأوضح منه في الآخر بل كل ذلك برهان على ابتداء الخلقة وعلى عظيم القدرة من الباري لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: وقد ادعى قوم أنه يتولد في الثلج حيوان ويتولد في النار حيوان وهذا كذب وباطل وإنما قاسوه على تولد حيوان ما في الأرض والماء والقياس باطل لأنه دعوى بلا برهان وما لا برهان له فليس بشيء وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإذا حصلت الأمر فالحيوان لا يتولد من الماء وحده ولا من الأرض وحدها ولكن مما يجتمع من الأرض والماء معاً فتبارك الله أحسن الخالقين لا معقب لحكمه لا إله غيره عز وجل.
تم السفر الثالث{المجلد 5.} بتمام جميع الديوان من الفصل في الملل والآراء والنحل بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه.